“أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم”، هكذا باتت تُوصف أزمة النازحين السودانيين الذين يواجهون خطر الموت جوعاً أو جراء نقص الدواء في بلادهم، بينما من لجأ منهم إلى الخارج مهدد بالخطف في إحدى دول الجوار، وسط تجاهل دولي لهذه الكارثة.
وأجبر الصراع الوحشي الذي نشب في إبريل/نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المنشقة عنه، الملايين في السودان على الفرار من منازلهم، مما رفع عدد اللاجئين والنازحين السودانيين إلى حوالي 12 مليون بحلول يونيو/حزيران 2024، حسب تقرير لـ”لجنة الإنقاذ الدولية”.
ولا تزال الغالبية العظمى من اللاجئين والنازحين السودانيين -أكثر من 10 ملايين شخص- داخل البلاد، مما يجعل السودان الدولة التي تضم “أكبر عدد من النازحين داخلياً على الإطلاق في العالم، ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من بينهم أكثر من 7 ملايين نزحوا داخلياً منذ بدء الحرب في 15 إبريل/نيسان 2024 بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع شبه العسكرية التي انشقت عن الجيش.
وقبل الحرب بين الجيش والدعم السريع، كان السودان يعاني بالفعل من أزمة إنسانية حادة، إذ أدى عدم الاستقرار السياسي والضغوط الاقتصادية على المدى الطويل إلى احتياج 15.8 مليون شخص إلى المساعدات الإنسانية، وكان عدد النازحين السودانيين داخلياً نحو ثلاثة ملايين قبل اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع.
ولم يؤد الصراع إلا إلى تفاقم هذه الظروف، مما أدى إلى ترك ما يقرب من 25 مليون شخص – أكثر من نصف سكان السودان – في حاجة إلى المساعدة.
وفي حين تركز القتال بشكل رئيسي في عاصمة البلاد، الخرطوم، فقد أثر الصراع على مناطق أخرى من البلاد. وفي دارفور تحديداً، أدت عمليات القتل الجماعي والتهجير إلى أنباء عن حدوث تطهير عرقي.
وقد أدى العنف الشديد والقيود المفروضة على حركة العاملين في المجال الإنساني إلى منع إيصال المساعدات، وخاصة في جنوب البلاد حيث تشتد الاحتياجات.
كانت آجر سليمان، متخصصة في الاتصالات تبلغ من العمر 32 عاماً، تعيش في العاصمة السودانية الخرطوم، عندما اندلع صراع على السلطة، حسب تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
وقالت: “أخبرتني والدتي أنها تريد التوجه إلى السوق في ذلك الصباح”. “كنا نسمع انفجارات مدوية، لكننا اعتقدنا أن الأمر يتعلق بالمتظاهرين، وليس أن البلاد بأكملها قد انزلقت إلى حرب أهلية. لقد كان الأمر مرهقاٍ جداً للمعالجة.
ولم تتوقع أن يستمر القتال لفترة طويلة، معتقدة أنه سيتم جمع جنرالات البلاد حول الطاولة للتوصل إلى اتفاق. لكن أصوات قذائف الهاون والطائرات المقاتلة وإطلاق النار لم تتوقف، وبعد بضعة أيام قررت الأسرة أنَّ عليهم المغادرة.
آجر سليمان، التي تعيش الآن في بورتسودان، وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر، هي من بين ملايين النازحين السودانيين الذين انقلبت حياتهم رأساً على عقب بسبب صراع وحشي يبدو مستعصياً على الحل أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 14،000 مدنيٍّ، وفقاً لتقدير متحفظ، من قبل منظمة مراقبة الحرب غير الربحية “ACLED”.
وقالت آجر سليمان: “لقد أخذت حاسوبي المحمول والهاتف فقط لأنني اعتقدت أننا سنعود بعد بضعة أسابيعٍ”. وأضافت: “هذا هو أكثر ما يؤلمني، عدم القدرة على قول حتى الوداع وقد مر الآن أكثر من عامٍ”.
من بين النازحين السودانيين الذين نزحوا داخلياً منذ بدء هذه الحرب والبالغ عددهم 7 ملايين، هناك نحو 4 ملايين طفل، بحسب اليونيسف أي أكثر من نصف النازحين السودانيين الجدد، وقال مانديب أوبراين، ممثل اليونيسف في السودان: “إن نزوح الأطفال يصاحبه أزمات أخرى متعددة نتيجة للحرب”، إذ يواجه الأطفال المرض وسوء التغذية والجوع، ويعاني ما يقرب من 8.9 مليون طفل من انعدام الأمن الغذائي الحاد”.
وتعيش آجر سليمان في شقة صغيرة تتقاسمها مع ست نساء أخريات لأن تزايد عدد سكان بورتسودان أدى إلى ارتفاع الإيجارات.
وقالت آجر سليمان عبر مكالمة فيديو: “اعتاد الناس على دفع 200 أو 300 دولار شهرياً هنا، لكن في بعض الأماكن ارتفعت الإيجارات إلى 1500 دولار”. وهي تعتبر نفسها محظوظة – فالعديد من الأشخاص الآخرين الذين وصلوا إلى المدينة يقيمون في المدارس أو الخيام أو في الشوارع دون الحصول على الطعام أو الكهرباء أو غيرها من المرافق.
أطباء بلا حدود تغلق آخر مستشفى لها في دارفور
وتعد الفاشر، آخر مدينة رئيسية تسيطر عليها الحكومة في منطقة دارفور الغربية الشاسعة، وهي موطن لعشرات الآلاف من اللاجئين الذين فروا من الهجمات الوحشية التي شنتها قوات الدعم السريع، حسب تعبير الصحيفة البريطانية.
وفي الأشهر الأخيرة، عانى سكان المدينة من حصار مشدد من قبل قوات الدعم السريع مع تعرضهم لنيران عشوائية يومية.
وفي 10 يونيو/حزيران الماضي، قالت منظمة أطباء بلا حدود الخيرية الطبية إنها أغلقت آخر مستشفى لها في المدينة بسبب هجمات قوات الدعم السريع.
وفي منطقة أمهرة شمال غرب إثيوبيا، التي تشترك في الحدود مع السودان وتعاني من الصراع بين المتمردين والقوات الحكومية، أُجبر ما يقدر بنحو 8,000 لاجئ على مغادرة مخيمات الأمم المتحدة بعد الهجمات المتكررة وإطلاق النار وعمليات الاختطاف.
واختبأ لاجئون سودانيون في الغابات الإثيوبية هرباً من قطاع الطرق والميليشيات.
وفر هؤلاء اللاجئون في مايو/أيار الماضي بعد أن اقتحم مسلحون وقطاع طرق المخيمات بشكل متكرر لسرقة الإمدادات واغتصاب النساء واختطاف الأشخاص للحصول على فدية وترويع المدنيين.
ويقول اللاجئون الذين تحدثوا إلى قناة “الجزيرة” إن ما لا يقل عن 7,000 شخص غادروا المخيمات وما زال حوالي 3,000 شخص في الغابة حيث يعيشون جنبًا إلى جنب مع “الحيوانات البرية” مثل الضباع والعقارب والثعابين.
وقال منتصر، أحد زعماء مجتمع اللاجئين السودانيين في الغابة: “نريد الخروج من المناطق الحدودية لإثيوبيا ونريد مغادرة إثيوبيا تماماً”، وأضاف “نحن نرفض أن يتم وضعنا في أي مخيم آخر هنا في إثيوبيا.”
لقد أدى الصراع إلى تدمير البنية التحتية العامة في البلاد، بما في ذلك النظام الصحي، الذي يعاني من نقص حاد في الموظفين والتمويل والإمدادات الطبية بالإضافة إلى الهجمات المتكررة والنهب واحتلال المرافق الطبية والمستشفيات. أكثر من 70 بالمائة من المرافق الصحية في المناطق المتضررة من النزاع في السودان غير صالحة للعمل أو مغلقة، حسب “لجنة الإنقاذ الدولية”.
وقد أدت حركة النازحين السودانيين الضخمة إلى فرض ضغط إضافي على موارد الرعاية الصحية، فضلاً عن خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية. أدى تفشي مرض الحصبة إلى مقتل أكثر من 1000 طفل في جميع أنحاء السودان. وتواجه البلاد أيضًا تفشياً حاداً للكوليرا، حيث تجاوز عدد الحالات المشتبه فيها 11,000 حالة، بما في ذلك 292 حالة وفاة مرتبطة بها، حتى 27 مايو/أيار 2024.
ومع ارتفاع معدلات سوء التغذية والنظام الصحي المنهك وانخفاض مستويات التحصين، فإن تفشي الأمراض سوف يتفاقم، مع آثار كارثية، خاصة على الأطفال.
“عمتي ماتت بسبب نقص الأنسولين”
بالنسبة لعمة آجر سليمان، التي كانت مصابة بمرض السكري ولم تتمكن من الحصول على الأنسولين في قرية في الجزيرة، وهي ولاية في وسط السودان، فإن نقص الأنسولين الضروري للحياة كلفها حياتها في نهاية المطاف.
وقالت: سليمان “يستمر عقلك في التفكير في هذا الموقف، ويتساءل: ماذا لو كان بإمكانها أن تأتي إلينا؟ لقد تسبب شيء بسيط في فقدانها لحياتها”. “كانت تتحدث إلينا كل يوم؛ لقد كانت أفضل صديقة لأمي.”
كما توفي ابن عمها في وقت مبكر من الصراع، أثناء هجوم لقوات الدعم السريع على جبل أولياء، وهي قرية جنوب الخرطوم، بعد أن عجز الأطباء – الذين يعانون من نقص الإمدادات – عن وقف النزيف من جرح في ساقه. وقالت آجر سليمان: “عثرنا على جثته بين كومة من الجثث الأخرى في المستشفى”.
جهود المجتمع الدولي يرثى لها
وقال التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، وهو أداة تدعمها الأمم المتحدة لتتبع الجوع في العالم، إن 14 منطقة بها تركيزات عالية من النازحين السودانيين داخل البلاد معرضة لخطر المجاعة.
وقال توم بيرييلو، المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، الشهر الماضي، إن أجزاء من السودان تعاني من المجاعة، وأنه حتى في البيئات الأكثر أماناً – مثل مخيمات اللاجئين في شرق تشاد حيث يستقر الأشخاص الفارون من دارفور بشكل أساسي، فقد قام المجتمع الدولي بجهود يرثى لها لتوصيل المساعدات.
سلة خبز السودان تتوقف عن الزراعة والأسر تبقى أياماً بلا طعام
ويؤدي النزوح الناجم عن الصراع في السودان إلى نقص العمالة في جميع أنحاء البلاد. وترتفع تكلفة الوقود، مما يؤثر على الإنتاج الزراعي، في حين يؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانخفاض القوة الشرائية إلى زيادة الاحتياجات الإنسانية.
وأدى توسع الصراع في ولاية الجزيرة، “سلة الخبز” في السودان، إلى نزوح أكثر من 500 ألف شخص وتفاقم أزمة الغذاء في البلاد. وفي الوقت نفسه، يساهم نهب الشركات والأسواق ومستودعات المساعدات الإنسانية في نقص الغذاء.
في كل يوم، يضطر الملايين من الأمهات والآباء إلى اتخاذ خيارات مستحيلة لإطعام أسرهم، وغالباً ما يقضون أيامًا دون أي طعام. إن أزمة الجوع ذات الأبعاد التي لا يمكن تصورها لا تشكل مصدر قلق مستقبلي، ولكنها حقيقة حاضرة في أجزاء معينة من البلاد، حسب تقرير لجنة الإنقاذ الدولية”.
وقالت زيدان لصحيفة the Guardian، إن شقيقتها الصغرى لم تتعاف من الأيام الأولى للحرب. “إنها تظل خائفة، وتتخيل أشياء وتنظر إلى الناس باستغراب وكأنها لا تعرفهم. أسوأ ما في الأمر هو أنها لا تستطيع النوم، إذ تغفو لبضع دقائق ثم تستيقظ خائفة.”
وأضافت زيدان: “أفتقد منزلي كثيراً، وجامعتي، والطرق التي كنت أسلكها، وكل الأماكن في الخرطوم”، “أحياناً أحلم بهم وأحياناً أتخيل كيف كنت أسير بسلام، وكانت نعمة عظيمة من الله، ولم نكن نعلم”.