يتزايد بشكل تدريجي نطاق التعامل المباشر بالدولار في مصر في قطاعات لم تكن تشهد في السابق عمليات بيع أو شراء بالعملة الصعبة، فيما يطلق عليه المصريون اسم “الدولرة”، وذلك رغم المشكلات الجمة التي تواجهها الحكومة المصرية التي تعجز عن توفير الدولار في البنوك والمصارف.
هذا التعامل الجديد بالدولرة في مصر أدى إلى هبوط سعر الجنيه بشكل سريع خلال شهر ديسمبر/كانون الأول 2023، وأدى ذلك لاتساع الفجوة بين سعره الرسمي وقيمته في السوق السوداء. ووصل سعر الدولار في السوق الموازية لقرابة 55 جنيه مصري، مقابل 30.75 جنيه بالسعر الرسمي.
ووصلت عمليات الدولرة، بحسب خبراء اقتصاديين وعاملين في الأسواق المصرية إلى قطاعات جديدة مؤخراً أبرزها مواد البناء والتشييد وفي مقدمتها الحديد والأسمنت.
أيضاً أصبح تجار الذهب يبيعون بضائعهم إلى محال الذهب بالعملة الصعبة، وكذلك صغار العاملين في مجال البناء والمقاولات الذين توسعوا في بيع العقارات بالدولار، بعد أن كان الأمر مقتصراً فقط على الشركات العقارية الكبيرة.
وأصبح تجار السيارات يتعاملون بعملة الدولار عوض الجنيه، كما اتجهت الشركات السياحية لتوسيع قاعدة التعامل بالدولار مع المواطنين الأجانب والمصريين كذلك.
الدولرة في مصر.. الحكومة شريك في الأزمة
يوضح صاحب إحدى الشركات العاملة بمجال البناء والإنشاء في مصر، أن التوسع في بيع العقارات بالدولار يرجع إلى المصانع التي تعمل تحت سمع وبصر الحكومة، وتقوم شركات المقاولات والتطوير العقاري التعامل معها والتي قررت أخيراً وقف التعامل بالعملة المحلية.
وأضاف المتحدث أن مصنع “حديد عز” فتح حساباً بالدولار للتعامل داخل البنوك المحلية، واتخذ قراراً بوقف البيع بالجنيه المصري، وهو ما دفع جميع التجار في كافة أرجاء الجمهورية لتداول بيع الحديد بالدولار بدلاً من الجنيه، وحدث ذلك لأول مرة مع بداية ديسمبر/كانون الأول 2023.
وكشف المصدر أن قرار حديد عز لم يكن له تأثير سلبي فقط على سعر طن الحديد الذي قفز بمعدلات كبيرة خلال الأيام الماضية، لكنه تسبب أيضاً في الضغط على دولار السوق السوداء، وهو ما تسبب في ارتفاع قيمته مقابل الجنيه بعد أن وصل أخيراً إلى 54 جنيهاً في مقابل الدولار الواحد.
وأضحى العاملون في مجال البناء والتشييد مضطرين للتعامل بالدولار، رغم خطورة ذلك عليهم، إلا أنهم يرون أن هناك حالة من فقدان العدالة لأن الحكومة منحت شركة حديد عز -وهي أكبر الشركات العاملة في إنتاج الحديد وتسيطر على الجزء الأكبر من سوق بيع الحديد في مصر- استثناء بالموافقة بتداول الدولار، وبالتالي فإن الحكومة تعد شريكاً في الأزمة الحالية.
وأدى لجوء مصر إلى مرونة سعر الصرف مع قصور في النقد الأجنبي بالبنوك إلى زيادة الطلب على تعاملات السوق الموازية (السوق السوداء لتجارة العملة) ووصول الدولار إلى 53 و54 جنيهاً بزيادة 22 و23 جنيهاً عن السعر الرسمي.
ولفت مصدر إلى أن الوضع ذاته يتكرر بالنسبة لبيع الأسمنت الذي أصبح بالدولار أيضاً، وإن كان ذلك دون موافقة رسمية من الحكومة، إلا أن إصدارها قراراً بالموافقة على مطالب شركات الأسمنت بتخفيض الإنتاج أدى إلى أزمة توفره في السوق، وهو ما دفع البعض لاستغلال ذلك وبيعه بالعملة الصعبة في ظل ضعف الرقابة على الأسواق.
اتساع رقعة الدولرة في مصر
وقبل عدة أشهر أعلنت شركة “أوراسكوم للتنمية” العاملة في مجال العقارات إلى تقييم أسعار البيع بالدولار واليورو، وفقاً لأسعار الصرف المعلنة مقابل الجنيه، مبررة ذلك بأن نسبة كبيرة من عملائها من الأجانب.
وأعلنت شركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار “سوديك” بيعها وحدات عقارية فاخرة بالدولار أو العملات الصعبة، بعد استحواذ شركة “الدار العقارية”، المملوكة للصندوق السيادي لحكومة أبوظبي، على 86% من أسهم الشركة مطلع العام الجاري.
وبررت “سوديك” قرارها بأنها تستهدف البيع للأجانب المقيمين في مصر، الذين لا يملكون حساباً محلياً بالجنيه، والعملاء من خارج البلاد، وأن الأمر غير ملزم بالنسبة للمصريين.
ويمنع القانون المصري أي معاملات تجارية داخل البلاد عبر أي عملة أجنبية، حيث تنص المادة رقم 126 من قانون البنوك رقم 88 لسنة 2003، على معاقبة الأشخاص المُستخدمين لأي عملة أجنبية بدلاً من عُملة الدولة في عمليات الشراء والبيع للسلع والخدمات داخل مصر.
ويغرم القانون المخالفين لتلك القواعد ما لا يقل عن 10 آلاف جنيه مصري وبما لا يتجاوز 20 ألف جنيه، كما تلزم المادة 111 من قانون البنوك رقم 88 بأن يتم التعامل في عمليات الشراء والبيع للسلع والخدمات داخل مصر بالعملة المحلية “الجنيه المصري” فقط.
وبرر رئيس مجلس إدارة شركة أوراسكوم المهندس نجيب ساويرس بيع العقارات بالدولار لحماية المطور العقاري من تقلبات العملة، مشيراً إلى أن المشكلات الأكبر يواجهها المطورون العقاريون في مصر الذين يعتمدون بالأساس على نموذج البيع بنظام “الأوف بلان”، أي إتمام اتفاقات بيع الوحدات السكنية قبل بنائها، ما يعني ضمناً تحديد أسعارها، واستخدام أقساط المشترين من أجل تمويل عمليات البناء والتشطيب.
وقال ساويرس إن التضخم يعني ارتفاع تكلفة إنتاج الوحدة ممثلةً في المدخلات المختلفة، دون أن يتمكن المطور العقاري من تعويض هذا الارتفاع في سعر الوحدة الذي تحدد بالفعل سلفاً، ليجد نفسه خاسراً، وهو ما سيؤدي، حال استمراره، إلى عزوف المطورين عن البيع، تجنباً لحالة عدم اليقين الناتجة عن الانخفاض المستمر في القيمة الحقيقية للجنيه.
ويعتبر خبير في السوق العقارية إلى أن اتساع رقعة الدولرة في مصر في قطاع العقارات مقدمة لدولرة الاقتصاد المصري مع الاتجاه المتصاعد نحو شراء البنايات، خشية من انخفاض قيمة الجنيه؛ وهو ما يمثل مقدمة لإقصاء العملة المحلية بشكل إذا ما استمرت عملية البيع على هذا النحو خلال هذا العام.
وأضاف المتحدث أنه في تلك الحالة سيتأكد الجميع من عدم قدرة البنك المركزي المصري على التحكم في السياسة النقدية للدولة، وبالتالي فإن ذلك ستكون له ارتدادات سلبية للغاية على قيمة الجنيه التي ستأخذ في التدهور بشكل سريع.
تصدير العقار وبيعه للأجانب بالعملة الصعبة
وكشف الخبير العقاري أن شركات العقارات توقفت بشكل كامل عن بيع البنايات التي تكون بالتقسيط بالعملة المحلية وتشترط أن يكون ذلك بالعملة الصعبة أو ترك قيمة القسط لما ستؤول إليه قيمة الجنيه.
ويتحمل العميل، حسب المتحدث أي زيادات في سعر الصرف، ويعد ذلك طريقة ملتوية بدلاً من البيع بالدولار مباشرة، وهذا الاتجاه يعد أقل ضرراً من البيع بالدولار بشكل مباشر؛ لأن ذلك يعد مقدمة للتهرب الضريبي وغسيل الأموال، ولن تتمكن الحكومة المصرية من فرض سيطرتها على الشركات العاملة في هذا القطاع.
وشدد المتحدث على أهمية أن يكون هناك ارتباط ما بين سعر تكلفة مواد البناء من حديد وأسمنت وطوب ونحاس وغيرها من المواد المستخدمة في الإنشاءات وبين سعر الوحدة السكنية، بما يضمن تحقيق المطور العقاري المكسب المناسب على أن يكون ذلك بتدخلات قانونية عاجلة من الحكومة المصرية.
واعتبر أن الحكومة تسببت في خضم مساعيها للحصول على العملة الصعبة عبر عمليات تصدير العقار وبيعها للأجانب بالعملة الصعبة في انتشار الأمر على جميع المتعاملين في هذا القطاع.
وتتجه الحكومة المصرية لتأسيس شركة لإدارة أنشطة تصدير وتأجير العقار في مصر بالنقد الأجنبي، بهدف جمع عائدات متوقعة تتراوح بين 2 و3 مليارات دولار، مع تصدير العقار بالعملة الصعبة مقابل الحصول على إقامة في مصر لمدة 5 سنوات.
وتسعى الحكومة المصرية من خلال مستهدفات قصيرة الأجل لإطلاق مبادرة لتصدير العقار والبدء في الترويج للوحدات السكنية للمستثمرين الأجانب والمصريين في الخارج.
وبدأ الحديث عن أول مبادرة من نوعها تهتم ببيع الوحدات العقارية بالدولار في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بموجب مجموعة محفزات بالتعاون بين الحكومة والمطورين العقاريين، وفق بيان صدر وقتها عن مجلس الوزراء.
وفسرت غرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات المصرية المبادرة على أنها ليست متاحة للجميع، بل للمصريين في الخارج والأجانب فقط.
وقال رئيس الغرفة، طارق شكري، إن المبادرة تشترط دفع قيمة العقار بالدولار مقدماً وليس بالتقسيط، كما أن المشتري سيسترد كامل قيمة الوحدة بعد 10 سنوات من الشراء، كمحفز قوي للعملاء المحتملين.
في سوق السيارات الدولار بـ60 جنيهاً
ولا يقتصر الأمر فقط على العقارات؛ إذ يُشير خبير اقتصادي إلى أن تعاملات الدولرة أخذت في الانتشار داخل قطاع النقل.
وبحسب النائب عن حزب الوفد سليمان وهدان والذي تقدم بطلب إحاطة إلى البرلمان بسبب اتساع نطاق الدولرة، فإن شركات التوكيلات الملاحية تقوم بتحصيل مصاريف شحن وتفريغ الحاويات في الموانئ بالدولار.
كما أنها، حسب المتحدث، تقوم بتحصيل الغرامات والمصروفات بالدولار مما جعل كل من يتعامل مع هذه التوكيلات يسعى إلى توفير الدولار وأدى ذلك بالتبعية إلى ارتفاع سعره، كذلك توكيلات السيارات التي تقوم بحجز السيارات بالدولار أو اليورو ولا تقبل الدفع بالجنيه المصري.
وكشف صاحب أحد معارض السيارات أن وكلاء العلامات التجارية في السوق المحلي يحجزون السيارات الجديدة بالدولار أو يضعون سعر الدولار مقابل بيع السيارات يفوق سعر صرف الدولار في السوق السوداء بجنيهين إلى ثلاثة تحسباً لتقلبات السوق.
وبالتالي، حسب المتحدث، فإن وكلاء العلامات التجارية في السيارات يجرون معاملات بيع السيارات مقابل 56 جنيهاً للدولار الواحد، وقد يصل البعض لدى الوكلاء إلى 60 جنيهاً للدولار الواحد.
ويضيف أن الحكومة المصرية نشطت في عمليات مراقبة بيع السيارات خلال الشهرين الماضيين، وهو ما دفع الوكلاء يلجأون إلى حساب القيمة مقابل الدولار ولكن بسعر إضافي، ويرجع ذلك لضمان عدم حدوث خسائر عند استيراد دفعات جديدة يكون سعرها أعلى مقارنة بالدفعات السابقة.
وأشار إلى أن تراجع طلب المصريين على شراء السيارات الجديدة قد يساهم في انخفاض تسعير قيمة الجنيه أمام الدولار خلال الأشهر المقبلة، وكلما زاد الإقبال على الشراء جرى تقييم الدولار بسعر أعلى.
وتراجعت مبيعات سيارات الركوب بالسوق المصري باختلاف العلامات التجارية في أول 10 أشهر من 2023 قدرت بـ52 ألفاً و887 سيارة، بمعدل تراجع 57% مقارنة بمبيعات نفس الفترة من عام 2022.
الدولار بـ58 جنيهاً في سوق الذهب
ما يحدث في السيارات يتكرر بصور مختلفة في الذهب الذي يهرول المصريون نحو شرائه، وبحسب صاحب أحد المحالات فإنه مع زيادة الإقبال غير المسبوقة ومع تراجع المعروض من الجنيهات الذهب والسبائك خلال الأيام الماضية وإلى جانب صعوبة الوصول إلى الدولار في السوق السوداء دفعه للبيع بالدولار.
وحسب مصدر فقد اقتصر الأمر على بيع الجنيهات والسبائك التي توفرت بصعوبة قبل أعياد رأس السنة، مشيراً إلى أنه يجري تسعير الدولار مقابل 58 جنيهاً وهو السعر الذي يطلبه التجار لتوريد المشغولات الذهبية.
وسجلت مشتريات المصريين من الذهب خلال الثلاثة أرباع الأولى من العام الماضي نحو 46.4 طن، في مقابل 38.5 طن خلال الفترة نفسها من العام الماضي، بزيادة 20.5%.
ويؤكد مصدر حكومي أن الدولار يُعد ملاذاً آمناً للمواطنين حينما يشعرون بالخطر؛ سواء كان ذلك سياسياً أو اقتصادياً، ونتيجة ذلك انخفاض قيمة العملة المحلية؛ وبالتالي فإنهم يلجأون لشراء الدولار؛ ومن هنا تظهر ظاهرة الدولرة في مصر.
وأشار المتحدث إلى أن التعاملات بالدولار تضاعفت في السوق المصري مع اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأن المواطنين يخشون من تأثيرات هذه الحرب عليهم وعلى الاقتصاد بوجه عام مع التهديدات المحيطة بالحدود المصرية إلى جانب ما تركته في السابق أزمة كورونا و الأزمة الروسية الأوكرانية من تأثيرات.
وأكد المتحدث أن هناك بالطبع مشكلات هيكلية يعانيها الاقتصاد المصري نتيجة عجز الموازنة وصعوبات توفير العملة الصعبة، لكنها مشكلات يمكن التعامل معها ولا يمكن القول بأنها من تسبب في حالة الهلع الحالية التي تدفع القطاعات الاقتصادية بسرعة فائقة نحو الدولرة,
وأشار إلى أن السبب الرئيسي يرجع إلى الصراع المشتعل الآن في منطقة الشرق الأوسط وتقع مصر في القلب منه، في ظل احتمالات اتساع الحرب الحالية في قطاع غزة، وربط بين هدوء الأوضاع بالقرب من حدود مصر الشرقية أو انتهاء الحرب وبين هدوء عمليات الدولرة أيضاً.
ورفض المصدر ذاته وضع مصر في مقارنة مع دولة أخرى وقعت ضحية للدولرة مثل لبنان، مشيراً إلى أن الاقتصاد اللبناني يقوم بالأساس على السياحة وعوائدها وليس هناك قطاعات إنتاجية أخرى من الممكن أن تساهم في إنقاذ الاقتصاد.
وأضاف أن الوضع كان هشاً ووقع سريعاً نتيجة تحكمات الدولار، لكن الوضع يختلف في مصر؛ لأن هناك قطاعات إنتاجية مختلفة ولا يقوم الاقتصاد على عامل واحد فقط.
وتحدث الدولرة في حالة من عدم الاستقرار للاقتصاد الكلي في بلد ما، مع زيادة جامحة في مستويات التضخم تتخطى قدرات البنك المركزي على مواجهته، وتنخفض قيمة العملة الوطنية أمام العملات الصعبة، مع صعوبة إيجاد بعض السلع.
وتُؤدي هذه الأسباب في الأغلب لإسراع المواطنين وبعض الوحدات الاقتصادية لاكتناز الدولار، صاحب السيادة الأكبر بين العملات الصعبة، وتظهر زيادة في حجم الودائع الرسمية وغير الرسمية بتلك العملة بدلاً من العملة الوطنية.