سيدي الرئيس .. لَيسَت للبيع !!

سيدي الرئيس .. لَيسَت للبيع !!
في صباحات الهدنة الأولى كانت غزة تشبه جرحًا أفاق من غيبوبة النار .
البيوت رماد .. الأزقة تاهت ملامحها .. والنوافذ صارت عيونًا مطفأة تطلّ على الفراغ
ومع ذلك بدأ الناس يعودون ..
رجالٌ يحملون حجارةً لا تُسند جُدراناً .. نساءٌ يفتشن عن رائحة الخبز تحت الغبار .. وأطفالٌ يركضون في الحطام كأنهم يلاحقون شمسًا تائهة .
كلّ ما في المنطق يقول إن العودة جنون .. لكنّ القلوب كانت تقول : هو الوطن وإن صار رمادًا وإن صار دمارًا .
في علم الاجتماع لا توجد معادلة تفسّر هذا الحنين الكاسر .. فالحبّ حين يمتزج بالذاكرة يتحول إلى غريزةٍ وجودية .
الأوطان ليست أسقُفاً وجُدراناً .. بل مرآة لوجه الأمّ .. وظلّ شجرةٍ في ظهيرةٍ بعيدة .. وصوت مؤذّنٍ في حيّ قديم .. وأجراس كنائس تُقرَع .
لهذا يعودون .. ليس إلى الحجارة .. بل إلى أنفسهم التي بقيت هناك .
كلّ خطوة فوق الركام هي إعلان حياة .. وصلاةٌ على الأرض التي لم تتركهم حين تركوها .
يبتسمون لأنهم يعلمون أن السماء لم تغلق أبوابها بعد .. وأنّ الشهداء ليسوا غيابًا بل حضورًا في الذاكرة .
لقد علّمتهم تربِيَتهم أن الألم ليس عارًا بل طريقٌ نحو الطهارة .. وأنّ الصبر هو المعنى الوحيد الذي لا ينتهي .. .
يقول علماء النفس إن الإنسان حين يتأقلم مع الفاجعة يصبح أكثر قدرة على الحياة .. لكنّ الفلسطيني لا يتأقلم فحسب بل يحوّل الفاجعة إلى هوية .
يعود إلى بيته المهدّم لا ليستظلّ بل ليعلن تحدّيه : ها أنا هنا .. لم تنجحوا في اقتلاعي
إنها ليست بلادة ولا جنونًا .. بل يقين بأنّ من يخسر الجدران لا يخسر الحقّ .
وحين يبتسمون لا يبتسمون للفرح .. بل يبتسمون سُخريةً من ذاكَ القاتل المجنون .
ذاكَ هُوَ ما يسميهِ علماء الاجتماع “الفرح المقاوم” — أن تضحك في وجه الرماد لأنك تعرف أن النصر الحقيقي هو أن تبقى حيًّا في مكانٍ أرادوا لك أن تموتَ فيه .
في غزة لا يعود الناس إلى بيوتهم … بل إلى كرامتهم وذاكِرتهم وعِشقهم .
يعودون لأنهم لا يحتملون أن يتركوا الأرض وحيدة وَهيَ العاشقة والمعشوقة .. .
أن الإنسان حين يمتزج بالأرض يصبح شيئًا أعمق من إنسان : يصبح أسطورة البقاء نفسها .. يُصبح العنقاء ذاتها .. يُصبح هُوَ المشهد نفسه .
من سيزور هذه الأرض قريبًا – يا سيدي الرئيس – أيًّا كان اسمه أو منصبه .. عليه أن يدرك أنّ هذه الأرض ليست للبيع .
فمن يعود إليها بعد أن صارت رمادًا، لا يمكن أن يبيعها ولو بوُعد الخلود .
من يدخل بيته المهدّم حافي القدمين إنما يقول للعالم كلّه : أنا صاحب الحق .. وهذا الركام موطني وحياتي .. .
هل يمكن أن تُشترى أرضٌ رُويت بدماء أصحابها ؟.
قل لمن يساومونكَ عليها : إنّ من يدفن أبناءه في التراب لا يمكن أن يفرّط به .. ومن يضحك وسط الدمار إنما يقول : لم تهزمونا بعد .
أن فلسطين – يا سيدي ألرئيس – لا تُقاس بالأمتار .. بل بالدمّ والذاكرة واليقين .
وأن من يعيش بين الرماد ويزرع في قلبه الأمل لا ينتظر إذنًا من أحد ليبقى أو ليعود .
العودة ليست جنونًا .. بل هِيَ أجمل أشكال الوعي وأجمل لحظات الجنون.
غزّة – يا سيدي الرئيس – هِيَ سيدة الأرض هِيَ أمّ البدايات وأمّ النهايات .. هِيَ الأرض التي لا تُباع .
المحامي فضيل العبادي

Read Previous

مندوبا عن الملك وولي العهد. العيسوي يعزي عشيرة أبو سليم

Most Popular