سَلامٌ مؤقت .. أم إستراحة مُحارب ؟

سَلامٌ مؤقت .. أم إستراحة مُحارب ؟
منذ إعلان مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف القتال في غزة وتبادل الرهائن والأسرى، عادت لغة “السلام المؤقت” إلى واجهة الأحداث وسط آمالٍ حذرة وشكوكٍ عميقة .. فالمبادرة التي تنص على وقف القتال على مراحل وإعادة تموضع القوات الإسرائيلية وبدء الإعمار، قد تبدو في ظاهرها إنسانية لكنها من حيث الجوهر تواجه امتحان الثقة : هل يمكن لإسرائيل أن تلتزم فعلاً باتفاق لا يخدم أهدافها الميدانية ؟
السجلّ التاريخي لإسرائيل في هذا الشأن لا يبعث على الاطمئنان .. فمنذ الهدن الأولى في خمسينيات القرن الماضي في قبيا وغزة وطبريا – مرورًا بانتهاكاتها في لبنان والاردن ( محاولة اغتيال خالد مشعل ) واستهدافها منشآت دبلوماسية وطبية في تونس وسوريا وغزة وصولًا إلى خرقها التزامات “أوسلو ووادي عربة واتفاق المعابر تكرّر النمط ذاته : توقيع وتعهّد ثم نقضٌ بعد تحقيق الهدف .
الأمم المتحدة وثّقت مئات الانتهاكات لقرارات وقف إطلاق النار والهدن الإنسانية آخرها استهداف العاصمة القطرية في حَركة خيانة مُكتملة الأركان .
رغم ذلك تمتلك مبادرة ترامب بعض المقوّمات التي تمنحها فرصة محدودة للنجاح في مرحلتها الأولى : رغبة إقليمية ودولية في تهدئة إنسانية بعد حربٍ مدمّرة، وترتيب تبادلي واضح “رهائن مقابل أسرى “ودعم سياسي أميركي مباشر .. غير أنّ الخطر يكمن في اليوم التالي حين تبدأ الحسابات الإسرائيلية الداخلية بالظهور خاصة اليمين المتشدّد رافضًا لأي تسوية تُمنَحُ فيها حماس مكسبًا سياسيًا أو إنسانيًا .
التحليل الواقعي يُظهر أنّ احتمال نجاح المرحلة الأولى من المبادرة يبلغ نحو 65%، فيما تتراجع فرص تثبيت التهدئة إلى نحو 45% وتزداد احتمالات النكث والخرق إلى ما يقارب 60% فور أن تستعيد إسرائيل رهائنها دون ضمانات مكتوبة أو رقابة دولية. التأريخ القريب والبعيد يؤكد أن إسرائيل كثيرًا ما تتعامل مع الاتفاقيات كـ”أدوات تكتيكية” وليست التزامات دائمة .
ومع كل هذا يبقى من الضروري أن يدرك الفلسطينيون أنّ تاريخ الصراع مع إسرائيل ليس صفحة بيضاء بل سجلٌّ طويل من الغدر السياسي والعسكري الاسرائيلي ، وأنّ الثقة المطلقة بوعودها قد تكون مدخلًا لخسارة ما تبقّى من أوراق القوة .
فإسرائيل اعتادت – كلما ضمنت مكسبًا أو هدأت الضغوط الدولية – أن تنقلب على التفاهمات وتستأنف عملياتها بذريعة “الردّ الوقائي” أو “ملاحقة الإرهاب” ومن هنا فإنّ الحذر ليس خيارًا، بل واجب وطني وأخلاقي، يقتضي أن تُدار أي هدنة بوعي استراتيجي كامل وبضمانات رقابية لا تسمح لإسرائيل أن تترجم التهدئة إلى خديعة مؤقتة .
إنّ التجارب السابقة من أوسلو إلى اتفاق المعابر إلى الهدن الأخيرة في غزة تُثبت أن الغفلة السياسية أمام التطرف الإسرائيلي كثيرًا ما كانت أخطر من المواجهة نفسها .
المبادرة تحمل في طياتها مفارقة واضحة : ضرورة إنسانية عاجلة لكنها أيضًا اختبار أخلاقي وسياسي لمدى صدق الأطراف في احترام ما تَمّ التوافق عليه .
وإذا لم تُرفق هذهِ التوافقات بضمانات دولية قوية ورقابة متعددة الأطراف فستكون كسابقاتها هدنة قصيرة تُمنَحُ فيها إسرائيل الوقت لترتيب أوراقها لا أكثر .
يا مَنْ ضَحيتُم ودفعتم الثمنَ مُضاعفاً : الحَذَر الحذر .. هذا عدوّ غادر لا يُراعي فيكم وفينا إلّاً ولا ذمة .
المحامي فضيل العبادي

Read Previous

حادثة السلاح الفردي لمرافقي الشيباني تُفجّر التوتر في مطار بيروت

Read Next

“دو” تعلن توقيع مذكرة تفاهم لإطلاق نقطة ربط إقليمية جديدة في مدينة العقبة الرقمية بالأردن

Most Popular