
مَعَ المُحاصرين في أنفاقِ غزّة !!
عَلى حدود مَعبر رَفح إنتظرت سويعات .. جاء وصافحني .. دسستُ في يدهِ ما تمَّ الإتفاق عليهِ .. وطأت أرض غزّة .. غابَ عَنْ ناظري .. أشعة شمس المساء التي تتسلل مِنْ خلال غيوم سوداء .. ورياح باردة تصفع وجهي .. سِرت مطأطئ الرأس .. خوفًا أن تأتي عيوني بعيون طفلٍ غَزيّ ويسألني أين أنتم يا أخوتي ؟؟ لا شوارع .. لا بيوت .. خيام مُمزّقة لا تستر مَنْ بداخلها .. ساعتين أو أكثر قليلًا رأيتُ مربعات إسمنتية صفراء .. سألت طفلًا صغيرًا : ما هَذه ؟ إنّه الخط الأصفر !! الداخل بَعدهُ مفقود أو مقتول !! قادتني قدماي مَع سَيْل ماء صغير يجري بين الأنقاض .. سرت مَعه لا أعرف كيف !! .. فجأة لَمْ أشعر إلّا وأنا في قُعر حُفرة وفيها ما يُشبه السرداب .. دَخلتُ النفق .. شعرت أن العالم فوقي قد اختفى .. وإنني في ظلام مِنْ فَوقِهِ ظلام .. شيئًا ما يسحبني إلى عمق لا يشبه شيئًا عرفته من قبل .. الهواء كان ثقيلاً كأنني أتنفس من صدر الأرض .. الرطوبة تلتصق بملابسي وتذكّرني أنني في مكان لا يليق بالبشر… لكنه أصبح مسكنًا لمن لم يعد لهم مكان آخر.
تقدّمت ببطء .. وقع خطواتي كأنها صدى بعيد لم يعد يعرف صاحبه .. وعند أول زاوية .. رأيتهم .. مجموعة من الرجال جلسوا متقاربين .. كأن المسافة بينهم إذا ما اتسعت ستبتلع أحدهم إلى غير رجعة .. قَفَزوا واقفين وكأنهم رأوا وحشًا يغيرُ عليهم .. أنا أردني .. قُلتُ بصوت كأنهُ خارج مِنْ الاعماق .. صَدّقوني فورًا .. هَلْ إحساسهم قالَ لهم ذلك .. هَلْ هُوَ الوقت الذي مَرّ عليهم وهم محاصرون فَلَمْ يَعُد يعنيهم الأمر أكنت كاذبًا أم صادقًا ؟؟ رأيت في أعينهم شيئًا يشبه مزيجًا من الصبر والخوف .. وشعورًا غريبًا يشبه تَعب الإنسان مِنْ التَعب !!.
شَعرهم طال واختلط بالغبار .. لِحاهُم نمت بطريقة فوضوية جميلة .. الشيب لاحَ في رؤوس شباب في عمر أبنائي .. لم يكن شيب السنين … بل شيب الانتظار . شيئًا أثقل من الزمن يجعل الشعر يبيضّ قبل أوانه .
اقتربت أكثر .. ظهور بعضهم انحنت قليلًا من طول الجلوس .. أكتافهم إنحَنَت إلى الأمام كمن يحاول أن يحمي صدره من انهيار سقف محتمل .. كان فيهم صمود غريب .. صمود يأتي من فكرة واحدة :أنهم ما زالوا معًا .
سمعت أحدهم يقول لرفيقه بصوت بالكاد يُسمع : “اصبر… يوم ونطلع.” لم أدرك هل يقصد يومًا حقيقيًا أم مجرد كلمة اعتادوا قولها كي لا يسقطوا .. آخر رفع رأسه نحوي وقال : “إذا شفت الشمس… سلّم عليها نيابة عَنّا” كأن الشمس صارت شخصًا يعرفونه ولا يعرفون موعد لقائه .. شابّ صغير قال قُل لإخوتنا العرب : نحن عاتبون عليكم ولسنا غاضبون مِنكم .. قُل لهم إن عِرضَ أختي أمانة في أعناقكم .. كونوا أبناءاً لأُمي فأنا وَحيدها .. .
حبّة تمر كانت مدفونة في التراب .. مَطَرة ماء صغيرة يتناقلونها بحرص .. يمسحون بها على شفاههم .. يأكلون حبّة التمرِ بهدوء لا يشبه الأكل بل محاولة إقناع الجسد بأنه ما زال يستحق البقاء .. .
يعدّون الأيام بخطوط يحفروها على الجدار .. أحدهم يكتب اسم أمه كي لا ينساه .. وثالث يضحك ضحكة قصيرة ليقول لنفسه إنه ما زال قادرًا على الضحك ولو قليلاً .
شاب نحيل جلس قرب المدخل وقال لي : “إحنا مش خايفين من الموت .. اللي يخوّف أكثر… إنهم ينسونا ” .. شعرت وقتها أن الخوف الحقيقي ليس الموت بل الغياب .. أن يموت الإنسان دون شاهد ودون أثر .. هذا هُوَ الخوف !!.
تمنيت لو أحملهم معي واحدًا واحدًا إلى الهواء الطلق .. لكني كنت أعرف أن أمنية مثلي لا تكفي لرفع سقف مترين من التراب والحصار .
خرجت من النفق .. شعرت أن ظهري انحنى قليلًا مثلهم .. وأن صدري ضاق مثل صدورهم .. وأن شيئًا من ظلام النفق التصق بروحي .. أدركت أن من يعيش في هذه الأنفاق ليس مجرد مقاتل .. إنه إنسان يقاوم كي لا يختفي صوته في العتمة .. وكي لا تنطفئ آخر شرارة بقاء في داخله .. أدركت – ولَوْ مُتأخِراً – أنّ أنفاقهم أوسع كثيرأ مِنْ عالمنا الذي نعيش فيهِ .. فجأة كان صوت آذان الفجر يوقظني .. نظرتُ حولي وإذا بالأبناء ينظرون في عينيّ : لِماذا أنتَ مُبتسم ؟ لَمْ أستطع أن أقول إنني كُنت في أنفاق الحُريّة .
المحامي فضيل العبادي