نَــظَـــرِيَّــــة الجُــــنـــون
بِقَلَم : د.محمد يوسف أبو عمارة
يَومٌ جَديد مُختَلِف بِدقائِقِه وثَوانيه ومَشاعِرِه، يَقتَحِم الزَّمان والمَكانعنوة دونَ أَخذ مَشورَة أَحَد ، فَلا أَحد يَستَطيع تَأخيره أَو تقديمه أوالمُكوثَ فيه .. عَدّاد يَتَحَرَّك بِلا تَوَقُّف وهَوَ كذلك العُمر مُجَرَّد أَن بَدَأ لايَتَوَقف .. ركبتُ سَيّارتي وشعور جَميل وحافِز كَبير يَدعوني لاستِغلالالوَقت وفي عَقلي خُطَط كَثيرَة لِهذا اليَوم وفي قَلبي مَشاعِر غَزيرَةتَفيض حُبًّا وشَوقًا وعِشقاً لِكُلّ شَيء بحيط بي فَأَنا أُؤمِن بأَنَّك إِنأَحبَبت ما حَولك سيحبك مَن حَولك وإِن أَحبَبتَ الأَحداث سَتَستَمتِعبِها وإِن عَشِقتَ الأَلوان فَلَن يُسَيطِر عَليكَ ولا على تفكيرك اللَّونألأسود.
وبِمُجَرَّد أَن أَدرتُ بِمُحَرّك السَّيّارة وإِذ بِفَيروز تَشدو ..
يا دارة دوري فينا .. ضلّي دوري فينا ..
تَ ينسوا أساميهن .. وننسى أسامينا ..
تعا تَ نتخبّى من درب الأعمار ..
وإذا هنّي كبروا نحنا بقينا صغار..
وسألونا وين كنتو.. وليش ما كبرتوا إنتو..
منقلّن نسينا ..
واللي نادى الناس.. تَ يكبروا الناس ..
راح ونسي ينادينا ..
آه مِنّك يا أَيَّتُها المَاكِرَة سَيِّدَتي فَيروز .. كَيف عرفتِ ما أُكَلِّمُ بِهِنَفسي ؟! .. وكَيفَ استَطَعتِ أَن توقّفي عَدّاد السّاعات ودَرب العُمر .. ومَن هُوَ الذي يُنادي النّاس لِيَكبَروا ؟! وهَل باستِطاعَتي الاختِباء مِنهلِكَي يَنسى ويروح وما ينادينا ؟! .. حالَة مِن الحَماس والانسِجامالغَريب حَدَثَت بَيني وبَينَ لَحن وكَلِمات هذه الأُغنية ولَم أَنتَبِه لِنَفسيإِلّا وأَنا عَلى إِشارَة المُرور أغني بِصَوتٍ مُرتَفِع نظرت نحو السياراتمِن حَولي ولَفتَ انتِباهي أَنَّهُم جَميعهم يَنظُرونَ إِليّ .. خَجِلتُابتَسَمتُ وأَغلَقتُ نافِذَة السَّيّارَة .. وَواصلتُ الغِناء ..
وَصلتُ مَكتَبي وأنا أدندن وما إِن جَلَستُ وَراءَ المَكتَب وإِذ بالغالييَمشي الهويني نَحوي .. نَعَم إِنَّهُ فِنجاني القَهوَة ..
– صَباحَك سُكَّر دكتور .
– أَهلاً أفنان .. صَباحِك سَعيد ..
نَظَرتُ نَحوَ فِنجاني الذي كانَ وجهه مُمتَلِئ بالفُقّاعات الهَوائِيَّةويكَأَنَّهُ فُوَّهة بُركان .. أَمعَنتُ النَّظَر في تِلكَ الفُقّاعات التي تَعلوسَطحَ القَهوَة – فُقّاعات مِن الهَواء – لا تلبثُ أَن تَنفَجِر دونَ إِحداثصَوت ودونَ قيمَة وكذلك الكَثير مِن الأَشخاص فَما هُم سِوى فُقّاعاتمَملوءة بالفَراغ ولَيسَ حتّى الهَواء ، تَراهُم مِن بَعيد وتَتَمَنّى أَنَّك لَمتَقتَرِب لِأَنّهم لا يلبثون أَن يَذهبون دونَ إِحداث أَي أَثَر لذلك تَحزَنعَلى مُجَرَّد لَحظات الإِعجاب بِهِم.. لِذا أُكَرِّر .. لا تَقتَرِب كَثيراً مِنالآخرين ولا تتعمق!..
سارَعتُ لِوضعِ أُغنية فَيروز يا دارة دوري فينا .. لأَنّني لَم أَشبَع مِنالاستِماع والاستِمتاع ..
رَشَفتُ رَشفةً مِنَ الفِنجان .. تَبَخَّرَت كُلّ الفُقّاعات وقَوسٌ كالهِلالتَوسَّط الفِنجان ، هِلال!..ماذا يُريد فِنجاني أَن يَبوحَ لي ؟! فَهَل يُريدإِخباري أَن لِكُلِّ شَيء في الحياة دورة ؛ يَبدَأ صِغيراً كالمحاق ويَكبُررُوَيداً رُوَيداً كالهِلال ثُمَّ يَكتَمِلُ كالبَدر .. وبَعدَ ذلك يَعود إِلى نُقطَةالصِّفر فيَصغر البَدر لِيُصبِح هِلالاُ ثُمَّ مُحاقاً ثُمَّ يَختَفي .. لِنَبحَث عَنه.. يَضيع في هذا الفَضاء الواسِع ويَختَفي عَن أَنظارِنا .. وكذلكالعُمر فَنَبدَأُ صِغاراً نَستَعجِلُ الكِبَر ولا نلبَثُ أَن نُصبِح أَقرَب للكُهولَةخِلال رَمشَة عَين ونتمنى أَن يوقف فينا الزَّمن أَو أَن نَختَبِئ مِن الذييُنادي النّاس كي يَكبرون ..
رَشَفتُ رَشفةً أُخرى مِن الفِنجان .. لِيَتَحَرَّك سَطحه ويَرسُم دائرةتَتَوَسَّط الفِنجان وبِداخِلِها بعض بقايا مِن القَهوَة .. رُبَّما هُوَ البَدر .. وهُوَ خِتام مَراحِل نُموّ القَمَر ولكنّ لِماذا تَغزّل النّاس سابِقاً بالبَدر ؟لرُبَّما أَنّهُ عنده رُؤيَته مِن الأَرض يَظهَرُ لَنا جَميلاً بِسَبَب انعِكاسضوء الشّمس فيه ، والقَمَر يَرمُز في أَدَب الأُدَباء للكَمال المُخيف ،فهومِثالي في جماله ولكنّه يَخفي خَلفَه الكَثير مِن الغُموض فالاقتِرابمِنه يُغَيّر الصّورة ، فَهوَ يَبدو لَنا بِرَسم جَميل مُضيء مُبهِر ولكنَّهيَخفي وراء ذلك غُموضاً وعالماً مِنَ الأَسرار والتّضاريس !
كَما مُعظَم البَشَر والأَشياء والحَقائِق العِلمِيَّة ، فَبَعضُ الظَّواهِر جَميلَةفي جانِب مِن جَوانبها ولكنّ عِندَ تَحليلها أَو الخَوض فيها تعرف مانتمنّى لَو لَم نعرفه سابِقاً فأَحياناً عِندَما تَأكُل لَحماً طازَجاً تَكونغايَة في الاستِمتاع ولكنّك لَو مَرَرتَ بِكُلّ المَراحِل قَبلَ أَن يَصِل إِليكَعلى طَبَق اللُّحوم لَرُبَّما عَزَفتَ عَن أَكل اللّحم نِهائيًّا !
وكذلك تَفاصيل الأَشياء والأَشخاص والأَحداث ، فالمشتغلون فيعالَم السِّياسَة ” المَطابِخ السِّياسِيَّة ” يَرونَ الأَحداث مِن زاوِيَة غَيرالتي نَراها نَحن فَنَجِد أَنّهم لا يَستَمتِعون بِمُعظَم الأَحداث السّارَّةلِأَنَّهُم يُدرِكون أَنّها مُفتَعَلَة وأَنّ ما وَرائِها مِن شَرّ أَعظَم بِكَثير مِنظاهر الخَير الذي يُبدو في البِدايَة ، فَمُساعدات البَنك الدُّولي جَميلَةمِن زاوِيَة أَنّها قَد تسعف وَطناً مثقل بالديون أَو حكومة فَشلت فيإِدارة المال ، ولكنّك تُفاجَأ بأَنّ قروض ومُساعدات البَنك الدَّولي ماهِيَ إِلّا صُورَة جَديدَة مِن صُوَر الاستِعمار للبلدان المُختَلِفَة فالظّاهِرشَيء والباطِن شَيء يَبعد كُلّ البعد عَن ذلك..
رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى .. تَبدَّدت الأَشكال عَلى السَّطح واختَفَت وجاءَالمُنقِذ صَوت فَيروز ..
يا دارة دوري دوري.. موعدنا عالعيد ..
تَ يكبر الدوري.. ويحمرّ القرميد ..
ويا هالصبح الناطر.. قاعد بالقناطر ..
نحنا هلأ جينا ..
حبيبي والليل.. راحوا ببحر الليل ..
ونسيوني عالمينا ..
ما أَجمَل صَباحك يا فَيروز الذي لا يملّ انتظارك وهُو يجلسبالقناطر .. وينتَظِر قُدوم المُحبّ والحبّ فصباحنا نحن من ينتظره أماأنت فصباحك هو من ينتظرك!
ولكنّ الغَريب بالمَوضوع أَنّ الحَبيب واللَّيل بِمُجَرَّد قدوم الصّباح ذهبامعاً فالصّباح يَمحي اللّيل ولكنّ لِماذا مَحى مَعهُ الحبيب تاركاً حبيبتهتَنتَظِر عَلى المينا ؟!
تَبَدَّد سَطحُ القَهوَة كَتَبَدُّد اللَّيل عِندَ قُدوم الصُّبح الذي يَمحوه وكذلكالعَديد مِن الأَشخاص يَختَفون ويَذهَبون ويَتَبَدَّدون كَما أَنّهم لَميَكونوا تَمحوهم الأَحداث أَو الاحتياجات رُبَّما أَو المَواقِف الصَّعبَة ،وكَم يَظُنّ المَرء أَنَّه مُحاط بِكَم مِن المُخلصين وبِمُجَرَّد تَعَرّضه لِضيق ماتَجِدهم يتَبَدَّدون كَما اللَّيل والنَّهار يذوبونَ كَما حَبَّة ملح في ماء عَذب.. فَما أَكثَر الإِخوان حينَ تَعُدُّهُم
ولكنَّهم في النّائِباتُ قَليل ..
بَيت شِعرٍ للإِمام عَلي كَرَّم الله وَجهَه
فالمواقِف وَحدها والعثرات هِيَ مَن تَفرز الأَشخاص وتضعهم فيالغِربال ، فَيبقى مِنهم القِلَّة القَليلة الصّادِقة الوَفِيَّة وأَمّا الآخرونفَيذهبون ويتَبَدَّدون كَحبيب فَيروز الذي اختَفى مع اللَّيل ،ولكنّ اللَّيليرجع بَعدَ مُرور اثنَي عَشَرَ ساعَة .. أَمّا حَبيب فَيروز فَلا أَعتَقِد أَنّ لَهعَودة وإِن عاد فَهَل سَيَعود حَبيباً كَما كان أَم أَنّها لَن تَرضى بذلكفالصَّديق الذي لا يَكون معك بالشِدَّة يجب أَن يَختَفي للأَبَد ولا يَعودمُطلقاً .. وإِن عادَ فعليكَ أَن لا تُرَحِّب بِتلكَ العَودَة .. وهَل الوَقت كَفيلبِقَتل كُلّ القِصَص المُزَيّفَة ..
ويَأتي صَوتُ فَيروز مَرَّة أُخرى .. وهِيَ تَقول :
بيقولوا الحب بيقتُل الوقت ..
وبيقولوا الوقت بيقتُل الحبّ ..
يا حبيبي تَعَا تَ نْروحْ ..
قبل الوقت وقبل الحبّ ..
كَيفَ لَنا يا سَيّدتي فَيروز أَن نَذهَب قَبلَ الحُبّ وقَبلَ الوَقت ؟! وهَلهذا التَّوقيت هُوَ نَفسُ التَّوقيت الذي نَختَبِئ بِه مِنَ الذي يُنادي النّاسلِيَكبروا .. قَبلَ الوَقت وقَبلَ الحُبّ ..
رَشَفتُ رَشفةً أَخيرة مِن فِنجاني .. وأَنا أَقول قَبلَ الوَقت وقَبل الحُبّ .. هَيّا بِنا نَركُض في هذا الفَضاء الرَّحب ناسين الوَقت و مُتناسينالأَحداث وفضائك الرحب يَبدأَ مدى عمق دِماغك فَعَلى وسعِ أُفقكيَتَّسِع الكَون وعَلى مد بصرك تبتعِد الحُدود وأمام نَبض قَلبِك تَتلوّنالأَحداث وعِندَ جَمال بصرك تَحلَوّ الرُّؤيَة وتزهرُ الأَوقات ..
فاطلِق لعنانك المجال وطِر كَما طيور فَيروز على طراف الدّنياستَمتِع بالموسيقى والأَلوان والأَحداث ولا تَقِف لا أَنتَ ولا حياتَك علىشخص ظاهره صَديق وباطنه عَدوّ ولا عَلى أَحداث أَو مَشاكِل فَلاتَتَوَقَّف أَبداً ما دامَ في العُمرِ بَقِيَّة، سيظل للموسيقى طَعمُ وللأَلوانلَذّة وللوَردِ انبِهار فَكَم جَميل أَن تَنبَهِر كُلَّما أُهديتَ ورداً ، نَعَم أَنتَنبَهِر وتَتَفاجأ في كُلّ مَرَّة ، حلّق كالطّير وارسُم طَريقك كالنَّحل علىخَطّ السَّماء الزّرقاء .. خَطٌّ لا يراه سِواك وإِن وجدتَ شَريكاً في رَسمِهذا الخَطّ فَلتكونا أَنتُما اللّذان يَعيشان الحَياة بِمُتعَة وجُنون ،فالعَقل يَحدُّ مِنَ الاستِمتاع في كَثير مِن الأَحيان وبَعضٌ مِن الجنونيجعل الخَيال أَوسع ، والأَلوان أَكثَر تعدداً والموسيقى أَعذَب والطَّعامأَطيَب والحُبّ أَجمَل وأَقوى وأَدوَم ..
نَظَرتُ إلى فِنجاني وقلتُ له .. هيا نَعِش كُلّ لَحظاتنا بِجُنون ،وحِواريمَعك يا صَديقي ما هُوَ إِلّا ضَربٌ مِن الجنون ولكنَّه جنون جَميل ،جُنون عَفَوي ، جُنون أُحِبُّه ويفَجّر ما بي مِن طاقات .. وشَعرتُ بِأَنّهيَنظُر لي ويَغمِزُ غَمزَة ( سَميرة تَوفيق) ويقول :
يَعني أَنا مصاحِب واحَد مَجنون نَظرتُ إِليهِ وضَحِكنا سَويًّا وفَيروزتُكمِلُ ..
بيقولوا الحب بيقتُل الوقت ..
وبيقولوا الوقت بيقتُل الحبّ ..
يا حبيبي تَعَا تَ نْروحْ ..
قبل الوقت وقبل الحبّ ..