حَــكَــايـــا فِـــنــجـــان قَـــهــوَتـــي (8)

بِقَلَم : د.محمد يوسف أبو عمارة

فِي هذا الصَّباح أَحسَستُ بِأَنَّ أَشِعَّة الشَّمس تُداعبني مُعتَذِرَة عَنحَرّ الأَمس الذّي عاقَبَتني بِه ، فَجاءَ صَباحُ اليَوم بِأَشِعَّة ناعِمَةمُضيئَة غَير حارَّة تُعلِن بِدءَ هذا اليَوم مُقَدِّمة اعتِذاراتها عَن إزعاجييوم الأمس، وعَن شِدَّتِها التي شَعَرَت هي بأَنَّني لا أستحقّها فَأنا لاأحتمل كُلَّ هذا الحَرّ وكُلَّ هذه العُقوبَة… لِذا جائَت اليَوم مُعتَذِرَة..وأنا قبلت الاعتذار..

أَعدَدتُ نَفسي للذَهاب لِعَمَلي وأَنا أَرتَدي بَدلَة جَديدَة ذات لَون أَزرَق،وأَنا مِن عُشّاق  هذا اللَّون الذي يَرمُز للهُدوء والسَّلام والاستِقراروالنَّقاء ، وأَنا لا أُفَكِّر كَثيراً بِدَلالاتِ الأَلوان عِندَما أَرتَدي مَلابِسيبِقَدرِ ما أَبحَث في مَدى مُناسَبَتِها لِلَون بَشَرتي ولِلمُناسَبة التيسأَتَوَجَّه إِلَيها ،ولكنّ لا شَكَّ بِأَنَّ لَون السَّماء ولَون البَحر الأزرق وهُمامِن أَشدّ المُكَوِّنات الطَّبيعِيَّة التي اُحِبّ .. فأَطلق دَوماً شِعاراً لِي أَنَّسَقفي السَّماء ولا حُدودَ لِطموحاتي .. فالسَّماء الزَّرقاء سَقف لِكُلّطُموح بِلا حُدود، وغِطاء لِكُلّ مُتَشَرِّد فَقَد مَوطِنُه وبِلاده،والسماءهيوطن للطُيور الفارَّة مِن الحَرّ أَو البَرد أَو القَفَص .. فالسَّماء رَمزٌللحُرَيَّة ، الانطلاق وسعة ألأفق وكذلك البَحر الأَزرَق رَمزٌ للقُوَّةوالجَبَروت والغُموض والجَمال فَفي نَفسِ البَحر الذي تهدم أَمواجهأَقوى الترسانات .. تَجِد أَجمَل الكائِنات وأَرقّ اللَّوحات وفي أَعماقِهذا العَميق تَختَبِئ الكنوز والأَسرار والأَلغاز..

طَبعاً لَم أُفَكِّر بِكُلّ ذلك عِندما ارتدَيتُ بَدلَتي الزَّرقاء !

.. رَكِبتُ سَيّارَتي وشَوقٌ بإِنجازِ شَيءٍ جَديد يَعتَريني لا أَدري ما هُوولكنّ كانَ هذا الشُّعور لَدَيّ ..

دَخَلتُ مَكتَبي وانتَظَرتُ رَفيق كِتاباتي الذي جاءَ مُسرِعاً مُتَجَدِّداً .. شُعوري اليَوم مَع فِنجاني القَهوَة مُختَلِف فالمَرءُ يَفقُدَ الشَّغَف إِذا ماأَحسَّ أَنّ اليَوم شَبيه بالأَمس بَل ويُصبِحُ كُل ما يَقومُ بِه اعتِيادِيًّالِدَرَجة مَوتُ المَشاعِر والرَّغبات ،وهُنا عَلى الفَرد أَن يُعيد حِساباته فينَظرَتِه للأَشياء والأَحداث وتَعاطيه مَعها ففي كُلّ يَوم يُحضَر ليفِنجان القَهوة أَشعُرُ بأَنّي أَراهُ وأَحاوِرُه لأَوَّل مَرَّة كالعاشِق الذي لايَمِلّ مِن عِشقه .. الباحِث الذي لا يَنتَهي بَحثُه .. الطّامِح الذي لايَنتَهي طموحه ..

   

أَهلاً يا صَديقي العَزيز .. فِنجاني الغالي .. وشَعَرتُ بِأَنَّه يَبتَسِمويَقول لي : أَهلاً بِك يامَن تَجعَل لِحَبّات بُنّي قيمَة ، يا مَن تَجعلنيأَتجَاوَز حُدودَ الجَمادِ لأَغدو حيّاً أُحاوِرُوأُناقِشُ وأُحَلِّلُ وأَرسُمابتِسامَة أَحياناً بَل وأعطي حِكمَة أحيانًا أُخرى .. أهلًا يا منحررتني وجعلتني كائناً آخراً

نَظَرتُ نَحوَ فِنجاني الذي كانَ سَطحُهُ مُكتَمِلاً كالبَدر وكَما أُحِبّ .. رَشِفتُ مِنهُ رَشفَة .. كانَت رُبَّما الأَلَذّ مُنذُ أَن اعتدَتُ شُربَ القَهوَةولكنّ سَطحُه لَم يَتأَثَّر بَل بَقِيَ مُتَماسِكاً مُحافِظاً عَلى وحدتهاستَغرَبتُ وقُلتُ مِنَ المُمكِن أَنّ فِنجاني يُريدُ إِخباري أَنّ الهَدَف قَد لايَتَحَقَّق مِن أَوَّل ولا ثاني مَرَّة بَل حاوِل وحاوِل وحاوِل إِلى أَن تَصِللِمُبتَغاك ..

أَو أَنَّه يُريد أَن يَقول لي أَنَّه في الاتحاد قُوَّة فَتماسُك حبات البنّ علىالسَّطح وعَدَم انهياره أَمام أَنفاسي ما هُوَ إِلّا دَليل عَلى أَنّ الاتّحاديَجعَل الضعيف قَويًّا ويَزيد قُوَّة القَويّ ..

 

رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى عَلى أَنغامِ فَيروز ..

شايف البحر شو كبير ..

كبر البحر بحبَّك ..

شايف السَّما شو بعيدة ..

بعد السَّما بحبَّك ..

تَوافَقَت كَلِمات الأغنية مع لَون بَدلَتي ومع مُقَدِّمَة حَديثي .. ومَع أَنَّنيأَعرف أَنّ قِصَّة هذه الأغنية كانَ سَببها ابنَة عاصي الرَّحباني ذاتُالأَعوام السّت ( ليال ) حينما سألها والدها وهُم في مَنزِل مُطلّ عَلىالبَحر : قَدّيش بتحِبّيني ؟! .. فَأَجابَت بِعَفَوِيَّة : شايف البَحَر شوكبير .. كبر البحر بحبك ..

فَخَلَّد عاصي هذه المُناسَبَة بأُغنية شايف البَحَر شو كبير الذيضمنه مشاعره لطفلَته التّي كانَت تُعاني مِن مَرَض ( نَزيف الدّماغ ) فَضِمن الأُغنية ما يَدُلّ عَلى حُزنِه عَلى مَرَضها

يا همِّ العمر .. يا دمع الزهر .. يا مواسم العصافير

رَشفَتي الثّانية تَرَكت أَثرها في الفِنجان الذي جاءَت خُطوطه مُتوافِقَةمع ما أُفَكِّر بِه فَذهب تِجاه تشكيل أَمواج .. أَمواج بَحر .. تِلكَ المَوجَةالتّي تُؤَكِّد عَلى أَنّ الاستمرارِيَّة بالبَحث والعَمَل تُحَقِّق الهَدَف وعَلىأَنّ الشَّيء قَد يَبدَأُ صَغيراً ولكنَّه يَكبُر ويكبُر .. كالمَوجَة تَتَوَلَّد صَغيرَة.. وتَصِل للشاطِئ عِملاقَة .. وكالإِشاعَة التي تَبدَأ صَغيرة .. وتَنتَشِروتَكبُر بإِضافَة الآخرين حتى تصبح شيئاً آخر وكالكِذبَة .. وأَيضاًكالحُلم الذي يَبدَأ صَغيراً ويَكبُر في كُلّ مَرحَلة مِن مَراحِل الإِنجاز .. لِذا فَعَليك أَنّ تَكون كالمَوجَة في مَعرِفَة وَجهَتُك وكالمَوجَة في قُوَّتِكوَوصولِك للهَدَف ..وكالموجة في غموضك

   

رَشَفتُ رَشفةً أُخرى .. قَضَت عَلى تِلكَ الأَمواج المتلاطمة لتشكلمَجموعَة مِن الدَّوائِر المُتَداخِلَة والتّي تشبه إِلى حَدٍّ ما الدّهليز .. ويكَأَنَّه المَقصود أَنّ الدّهليز كالرِّحلَة إِلى المَجهول والذي مايَذهَبداخلها إِلى المَجهول عادَة وهُم أَصحاب العُقول الكَبيرة لأَنّ صاِحبالعَقل يُفَكِّرُ في التَّفاصيل مِمَّا يَجعُلهُ أَكثَر حَذَراً وأَقلّ مُتعَة مِن ذاكَالأَقل إدراكاً للأَشياء والأَحداث فكما قيل بأَنّ الحُزن سَبَبه الذَّكاء ،فَكُلَّما فهمت أَشياء مُعَيَّنة زادَت وعيك بِعَدم فهمها وتاهت بوصلتكأكثر ..

وكَما أَنّ التَّعَمُّق مُهِم في بَعضِ الأُمور إِلا أَنَّ التَّعامُل بِسَطحِيَّة هُوَالأَنجَع لِحَياة هانِئَة سَعيدة فالمتعمق في الشَيء غالِباً ما سَيَجِدُ فيمَرحَلة ما مالا يَسرّه ..

والدّهليز رُبَّما يَدُلّ على النَّفس البَشَرِيَّة التي تَتَقلّب في كُلّ ثانِيةوفي كُلّ مَوقِف ؛ مِن قِمَّة السَّعادَة إِلى قِمَّة الحُزن وفي جزء مِنالثّانية ، لِذا فَلا يَتَوَجَّب عَليك فِهم كُلّ مُكنونات الأَشخاص المقابلينلَك لِأَنّهم حَتّى هُم لا يعرِفونَها تَماماً ولا يَستَطيعون دَوماً تَبرير مايُسَيطِر عَليهم مِن مَشاعِر أَو انفِعالات والدّهليز رُبَّما يَدُل عَلى أَنّتَفسير الأَحداث والأَشياء يَختَلِف حَسَب الحاجَة لَها أَو الإِهتِمام بِهاأَو الخَوف مِنها ففي نظر دودَة تَحدث أَطفالها فإِن الأَسَد و النّمروالفَهد هي حَيوانات غير مُؤذِيَة وأليفه بَينَما البَطّ والدَّجاج حَيواناتخَطِرةَ جِدًّا يَجِب الحَذَر مِنها حَسَب ما قالَ ( برتراند راسل ) ..

عدوّك الآن قَد لا يَكون عدوّ صديقك ، وقَد لا يَكون عدوّك بالمُستَقبَل ،كَما هُوَ حبيبك الآن ..

وأَرخَيتُ السّمع لِفَيروز وهِيَ تَشدو ..

نطرتك سنة .. ويا طول السِّنة ..

وإسأل شجر الجوز ..

شوفك بالصحو .. جايي من الصحو ..

وضايع بورق اللوز ..

كَم هِيَ طًويلَة الدَّقائق للمُنتظر وكَم هِيَ سَريعَة للمُحِب ؛وأَنتَ تَنتَظِرُخَبَراً ما ، مُسافِر غالٍ عليك ، نَتيجَة فحص صحي أو اختبار ، أَيّشيء.. تَشعُر بِأَنّ الوَقت بَطيء مُمِل وَعقارِبُ السّاعَة تَزحَفُ زَحفاًويكَأَنَّها لا تَسيرُ مُطلَقاً عَلى عَكس ساعات تَقضيها مَع مَن تُحِبّ أَووأَنتَ تَعمل ما تُحِبّ فَسَتَجِد أَنّها مَرّت دونَما إِحساس بالوَقت ويكأَنَّتِلكَ العَقارِب العَجوز قَد تَحَوَّلَت إِلى شاب عدّاد يُحارل تَحطيم الأَرقامالقياسيَّة !فَمُخطِئ مَن يحسب الوَقت بالدّقائق والثَّواني، بل يحسِبُالوَقت بقدر مُتعتك بِه واستغلالك لَه ومشاعرك تجاهه ، فالعاشِقلحبيبه أو لِعَمَلِه أو لدراسته لا يَنظُر للساعة إلّا في نِهايَة الدَّوام أَوالمُحاضَرة أَمّا الكارِه لِعَمَلِه أَو تَخَصّص دِراسته فتراه يَمشي مععَقرب الثّواني فتُصبح مُهمّة إِنهاء الوقت شاقّة عليه .لِذا أَنصَحُ دَوماًبِأَن لا تَعمَل أَو تَدرُس إِلّا ما تُحِبّ وإِيّاك أَن تَعمَل عَملاً أَو أَن تَدرُستَخصُّصاً لا تُحِبّه فحياتك مَعه شبيهَة بذلك الذي يدرس تخصّصاًيكرهه ستعدّ الثَّواني التي لا تَنتَهي قَبلَ أَن تنهي عَلى سعادتكوحياتك .. إِيّاك أَن تَرتَدي ملابِس لا تُحبّها ، إِيّاك أَن تشتري سيّارةلا تعجبك لانّها توَفِّر بنزين !!

افعَل ما تُحِبّ لِكَي لا تركض منك السّاعات ولا تسرق حياتك الثّواني.. فمخطأ بعد اليوم من يعتمد على ساعته بحساب الوقت فالمشاعرهي المسؤولة عن الوقت وليس تلك العقارب عديمة الإحساس!

 

ولكنّ لِماذا أَضيع بورق اللّوز .. وأَسأَل شَجر الجوز

كَما تَقول فَيروز .. رُبَّما لِأَنّ أَوراق اللّوز المُتساقِط في الخَريف تَكونكَثيرَة وتملَأ المَكان فَتضيع بينها الخطوات ولا تهتدي إلّا بِسؤالالشّاهد عَلى الطّريق تِلكَ العجوز المعمّرة شجرة الجّوز ..

فالحِكمَة مطلوبة في كُلّ مَرحَلَة وكُلّ خطوة وإِذا ما تاهَت الخطواتعَليك بالبَحث عَن الحِكمَة والحكماء ..

رَشَفتُ آخر رَشفَة في الفِنجان .. وأَنا أَشعرُ بأَننّني أَنتمي لِعالَمأَزرق جَميل مليء بالطّموح والجَمال أَمسكتُ فِنجاني وذَهَبتُ نَحوَالمرآة كي أتفحص هندامي وشَعَرتُ بأَنّ فنجاني يَودّ أَن يُبديإِعجابه بِأَناقَتي لِهذا اليَوم فَغمزَ غَمزَة ( سَميرة تَوفيق ) التيأَنتَظِرُها وقال مَع فَيروز ..

شايف البحر شو كبير ..كبر البحر بحبَّك

شايف السَّما شو بعيدة .. بعد السَّما بحبَّك

كبر البحر وبعد السَّما .. بحبَّك يا حبيبي بحبَّك

إقرأ الخبر السابق

 جمعية اثر الشبابية بالتعاون مع منتدى خدمة السلام المدني تقيم ورشة تدريبية بعنوان “إدارة الحملات الانتخابية” وتعزيز المشاركة السياسية للنساء – صور

اقرأ الخبر التالي

كابوس إسرائيل.. كيف سربت المقاومة ٢٠٠ صفحة من بيانات جنود الاحتلال؟

الأكثر شهرة