حَــكَــايـــا فِـــنــجـــان قَـــهــوَتـــي (7) الـنَّــظَـرِيَّــة الـنِّـســبِــيَّـة فـي الحَيـاة

وأَشرَقَت شَمسُ الصَّباح مُعلِنَةً بِدءَ يَومٍ جَديد ، رِحلَة جَديدَة تَبدَأُ مَعبُزوغ أَشِعَّة الشَّمس الأُولى لِتَقول لَك : هَا أَنا أَمنَحُك فُرصَة جَديدَةلِتَحقيق ما لَم تُحَقَّقّهُ بالأَمس ، هَيَّا احزِم أَمتِعَتَك وأَقلِع مَعي في هذهالرِّحلة

الرِّحلَة نَحوَ تَحقيق الحلم.. فلا يحقق الحلم نائم ! فالحِلمُ لا يَتَحَقَّقبِمُعجِزَة لِأَنّ زَمَن المُعجِزات وَلَّى ولكِنَّهُ يَتَحَقَّقُ بالمُثابَرَة والجِدّوالتَّصميم والتَّخطيط ..

فَمَن وَضَعَ هَدَفاً لَه وسَعَى لِتَحقيقِه عَبرَ مَراحِل وخطوات مُنَظَّمَة زَمَنِيَّةومادِيَّة .. فَلا بُدَّ أَنَّهُ سَيَتَحَقَّق في الآخِر ، ولِدَى تَحقيقِهِ أَي جُزء مِنالهَدَف فَهُوَ بِمَثابَة صُعود دَرَجَة في سلّم النَّجاح إلى أَن نَصِلللنِهايَة .. فالنجاح لا يتم دفعة واحدة وإنما على مراحل وأشبهبصعود الدرج.

رَكِبتُ سَيّارَتي وهَمَمتُ بالمُغادَرَة ولكنّ شَيئاً ما غَير طَبيعي في حَرَكَةالسَّيّارَة .. نَزلتُ مِنها ونَظَرتُ نَحوَ الإِطارات آه .. يا للأَسَف إِنَّ إِحدىالإِطارات خالٍ مِن الهَواء ( مبَنشِر ) وأَنا في مَجال صِيانَة السّيّاراتتَكادُ تَكونُ ثَقافَتي وهِمَّتي أَقرَبُ للصِفر ، اتّصلتُ بأَبي النّور مُديرالحَرَكَة

أَبو النّور ، صَباحُ الخَير

صَباح الخير معَلمي

أَبو النور العَجَل الخَلفي اليَسار مبَنشِر

بَسيطَة معَلِّم الآن باجي بَوَصلَك وبَعدين بَرجَع بَعمِلَّك إِيّاه

لَأ ، أَنا باجي بتَاكسي ، وبَترِكلَك مُفتاح السَّيّارة عِند الحارِس

اوك

وبَدَأتُ أُفَكِّر في كَيفِيَّة الحُصول عَلى تَاكسي أَصفَر ، وبَعدَ ذلكتَذَكَّرتُ التَّطبيقات الذّكِيَّة التّي لَم أَستَخدِمها في الأُردُن أَبداً ..

وَحاولتُ طَلَب سَيّارَة وقَبلَ ذلك إِذ بِسَيّارَة تاكسي أَصفَر تَمُرُّ مِنأَمامي ، أَشَّرتُ لَها فتَوَقّف السّائقُ مُباشَرةً ..  

صَعَدتُ السَّيّارَة وأَخبَرتُ السَّائق بالعنوان .. وقامَ هُوَ بِتَشغيلِ عَدّادالنُّقود ..

نَظَرتُ إِلى وَجهِهِ ، كانَ طاعِناً في السِّن وتَبدو آثار السّنين مُسَطَّرَةفي تَجاعيد جَبينِه الخَشِن بَل وتَحسّ أَنّ تِلكَ التَّجاعيد قَد حَفَرَتأَخاديداً في خَدِّه الذي يَبدو ضَنك الحَياة واضِحاً وجَلِيًّا في كُلّتَفاصيلِه ..

كَيفَ حالُك ؟! بادَرتُ أَنا بالكَلام

بِحَمدِالله كويّس ، كُلّ شَيء مِن الله كويّس

الحَمدُلله دائِماً وأَبَداً ، مِن زَمان أَنتَ سائِق تاكسي ؟!

لا والله يا ابني أَنا كُنت سائِق شاحنة ولكنّ لَمّا كبرت الشّركة اللّيبَشتَغِل فيها أَنهو عَقدي وبتعرف الحَياة صعبة وراتِب التّقاعُد مابيكفي إلّا إيجار البيت فبساعِد صاحِب إلي عَلى هالتَكسيوالحَمدُلله مَستورة

الحَمدُلله ، بتعرَف إِنّي مِن أَكثَر مِن عشرين سَنة ما ركبت تاكسي

يعني أَنا حَظّي حِلو إِنّي أَنا اللّي رَكَّبتَك مَعاي

بالعَكس أَنا المَحظوظ يا .. أَبو .. أَنتَ شو اسمَك ؟!

أَنا أَبو ميرفت ، عِندي سَبَع بَنات الحَمدُلله

ماشاءالله ، رَبّي يخَليلك ياهم ويفَرحَك فيهُم كُلهُم

كُلهُم بِدهُم راحتي الله يرضى عَليهم ، وحَتّى المتزوجات

غَريب إِنَّك ما حاولت تجيب ولاد ؟!

يا أُستاذ أَوّلاً هاي إِرادَة الله ، بَعدين بهاد الزَّمن لا وَلَد بينفع ولابِنت المُهِم إِنتَ ترَبّيهم كويّس ويشيلوا حالهم ويكَتِّر خيرهُم ..

وأَثناء هذا الحِوار كُنَّا قَد اقتَرَبنا مِنَ المَدرَسَة ، طَلَبتُ مِنهُ النُّزوللِشُربِ القَهوَةِ مَعي إِلا أَنَّهُ أَبَى لارتِباطِهِ بالعَمَل ، حاوَلتُ أَن أُعطيهِزِيادَة عَلى العَدّاد إِلا أَنَّهُ رَفَضَ أَيضاً ..

وَدَّعتُهُ ودَخَلتُ مَدرَسَتي وحالَة مِن السَّعادَة تَعتَريني .. ما هذا الرِّضاالذي يَملكُهُ أَبو ميرفَت ؟!

وما هذهِ الثَّقافَة الجَميلَة وعِزَّةُ النَّفس ؟!

وَما إِن وَصَلت حَتّى حَضَرَت أَفنان وهِيَ تَحمِلُ فِنجاني القَهوَة ..

حَمداً للهِ عَلى سلامَتِك  

الله يسَلمَك دكتور

نَظَرتُ نَحوَ فِنجاني بِشَوق ولَهفَة .. يا هَلا بالغالي .. وشَعَرتُ بِأَنَّهُيَنظُر لِي بِحُبّ ويَقولُ لِي .. هَيّا أَيُّها الحَبيب تَعالَ لِنَحكي قِصَّةجَديدَة تُؤَلِّفُها أَفكارُك وتُوحي لَكَ بِها خُطوطي وحَبَّاتُ قَهوَتي وتخطهاأناملك وأفكارك.. هَيَّا فَطالَما هُناكَ بالعُمرِ بَقِيَّة سأَكونُ أَنا صَديقكومُلهِمَك ، وشريكك في هذه السلسلة التي ستخلدني في أذهانالقرّاء..

نَظَرتُ إِلى سَطح القَهوَة المُتَماسِك .. رَشَفتُ الرَّشفَة الأُولى .. ورَأَيتُأَنَّني قَد قُمتُ بِشَقِّ طَريق عَبرَ سَطحِ الفِنجان يَبدو ويكأَنَّه أُخدود أَوشَقّ طَبيعيكَسيق البَتراءأَو كالشَقّ الذي أَنجى الله بِهِ سيّدناموسى وفَريقهُ عِندَما ضَرَبَ النَّهر .. أو كتلك الأخاديد في خد أبوميرفت

لا أَدري لِماذا شَعرتُ أَنَّ الرِّسالَة مِن ذلكَ هِيَ أَنَّ لا مُستَحيل أَمامَالجدّ  .. فَعِندَما تَنعَدِمُ الرُّؤيا أَمامك لكثرة مشاكلك استَخدِم قَلبَكللاستدِلال .. وإِن تاهَ قَلبُك عَن الطَّريق وتوَقَّف البصر عَن أَداءِ مُهِمَّتِه.. سِرّ في أَيّ اتِّجاه ولكنّ لا تَقِف أَبداً فَإِن اهتَدَيتَ للطَريق الصَّوابفَقَد حَقَّقتَ المَطلوب وإِن لَم تَهتَدِ فَقَد أَضَفتَ لِحَصيلَةِ تَجارُبِك تَجرُبَةجَديدَةلا تُكَرِّرها

رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى .. فانقَسَمَ الفِنجانُ وعَادَ سَطحُه لِيَلتَفّ بِطَريقَةغَريبَة وحَرَكَة لَم أَعتَد عَلَيها إِلى أَن شَكَّل شَيئاً أَقرَب مايَكون لِرَأسِالقَلب ..

وَلا أَدري لِماذا شَعَرتُ أَنّ الحَرَكَة التي سَبَقَت تَشكيل رَأسِ القَلبتَعني أَنّ عَلَيك أَن تَستَحضِر الشَيء قَبلَ حُدوثِه فَغالِباً ما إِنّهسَيَحدُث فإِن ما يَحدث لَكَ ما هُوَ إِلّا بناتِ أَفكارِك فَتوقِعك للفَشَلسيجعلك أَقرَب لِذلك وتوقعك للنَجاح سيجعلك الأَقرَب لِذلك أيضاً .. وكذلك يَنطَبِقُ ذلك عَلى كُلّ تَفاصيل الحَياة .

 

رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى .. وَأَصغيتُ السَّمع لِفَيروز ..

سألوني النَّاس عنَّك يا حبيبي

كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا

بيعزِّ عليِّي غنِّي يا حبيبي

ولأوَّل مرَّة ما منكون سوا

تَبَعثَرَ شَكلُ القَلب المَرسوم عَلى سَطحِ الفِنجان وتَحرَّك نَحوَ الأَطرافوعادَ جُزء صَغير مِنه لِيُشَكِّل قَلباً آخر واضِح .. ويَبدو أَنَّه يَدُلُّ عَلىأَنَّ القِصَص لا تَنتَهي دونَ أَن تَترُكَ أَثَراً فَلا الحُبُّ يَنتَهي ولا الكُرهُيَنتَهي إِذا ما تَرَكَ جُرحاً أَو وَجعاً أَو أَثَراً طَيِّباً لِذا اختَر أَن تَكون أَنتَصاحِب الأَثَر المَحمود لا المَذموم فانهِ قِصَصك بِرُقيّ ودونَ إِيذاء ،بَدِّل عَمَلَك لآخَر دونَ أَن تَذمَّ العَمَل السّابِق ، اترك من حَولَك لآخريندونَ أَن تَفضَح أَسرارَهُم وَتوشي بِها .. كُن أَنتَ الإنسان الذي يُقالعَنك في غيابِك كُلّ ما هُوَ جَميل ، كن أنت من يقول الناس عند ذكره..لِسّه الدنيا بخير

     

رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى .. لِأَرى أَنَّ رَأس القَلب وَما حَولَهُ قَد تَبَعثَر مَرَّةًأُخرى وذابَ وتَلاشى ..

وَلا أَدري لِماذا خَطَرَ بِبالي مَوضوع نِسبِيَّة الأَشياء فَما أَراهُ جَميلاً قَدلا تَراهُ أَنتَ كذلِك لِذلك اختَلَفت الأَذواق

فَلولا اختِلاف الأَذواق لَبارَت السِّلَع

وهُنا يَجِب عَلينا أَن يَكون لَدَينا قُدرَة على استيعابِ وِجهَة نَظَر الآخرمَهما كانَت غَير مُهِمَّة أَو سَخيفَة أَو بَشِعَة مِن وِجهَة نَظرنا فأَحياناًأَرى بَعض المَلابِس وأَقولُ بِنَفسي هَل حَقًّا يوجَد إِنسان يَلبِسُ هذهالأَلوان أَو هذه الموديلات ؟! لِأُفاجَأ بِأَنَّها الأَكثَر مَبيعاً .. وكذلك الذَّوقالموسيقي والآراء الثَّقافِيَّة والسِّياسِيَّة فَما تَراه أَنتَ صَحيح مِن وِجهَةنَظرك قَد يَراهُ الآخر غايَة في التَّطرف في الخَطَأ .. ولكنّ مَن مِنّايَمتَلِكُ تِلكَ القُدرة عَلى استيعاب الآخر..

كَما قالَ فولتير : قَد أَختَلِفُ مَعك في الرَّأي ولكنّي مُستَعِد أَن أَدفَعَحَياتي ثَمَناً لِحَقِّكَ في التَّعبير عَن رَأيِك !

وهُنا تَخَيَّلتُ كَمّ الظُّلمِ الذي تَعيشه مُعظَم الأُمَم في عَدَم قُدرَتها عَلىقَول كَلِمتها ، بالرُّغمِ مِن وُجود مَجالِس شَعب منتخبة ولكنَّ مُعظَمهامَجالِس صوريَّة لا تَجرُؤ عَلى قَولِ أَي كَلِمَة أَو تُغَيّر أَي قَرار ! هِيَبِمَثابَة الدّيكورات التّي تَلزم الهَيكل التّنظيمي للدُوَل ..

ورَشَفتُ آخِرَ رَشفَة في الفِنجان .. وأَنا أَتَذَكَّرُ كَمّ المُرَشّحين الذينَزاروني لِمُؤازَرَتِهم كَون الانتِخابات النِّيابِيَّة عَلى الأَبواب في الأُردنوقَناعَتي بِعَدَم صَلاحِيّة مُعظمهم وكَم كُنت أُلاحِظ أَنّ مُعظَمَهُم لايَحمِلُ فِكراً ولا خَريطَة طَريق ولكنّه يُرَشِّح نَفسَهُ لِغايَة في نَفسِيَعقوب رُبَّما ليُكمِل الدّيكور النّاقِص في المَرحلَة القادِمة ..

وأَرخيتُ السّمع لِصَوتِ فَيروز تُكمِل ..

طلِّ من اللّيل قلِّي ضوِّيلي

لاقاني اللّيل وطفَّى قناديلي

ولا تسأليني كيف استهديت

كان قلبي لعندِك دليلي

اذاً إن انعدمَت الرُّؤيا استخدم قلبك كما قالَت فَيروز

بِقَلَم : د.محمد يوسف أبو عمارة

نَظَرتُ إلى فِنجاني الذي هَمسَ لِي وَقال : الآن بيزعل مِنَّك أَصحابَكالمُرَشّحين للمَجلِس ..

غَمَزتُه غَمزَة ( سَميرة تَوفيق ) .. وأَكمَلتُ مَع فَيروز ..

واللّي اكتوى بالشَّوق اكتوى

لأوَّل مرَّة ما منكون سوا

إقرأ الخبر السابق

مصدر: بدء تنفيذ مخالفات السير باستخدام الرقابة الذكية بداية العام المقبل

اقرأ الخبر التالي

وسط ترقب الرد الإسرائيلي .. دول عربية وأجنبية لرعاياها: غادروا لبنان فوراً

الأكثر شهرة