تحوّل أهالي جنوب لبنان إلى نازحين في مختلف الأراضي اللبنانية، فالهجوم الذي يشنه الاحتلال الإسرائيلي على الجنوب، والذي بدأ منذ أكثر من ثمانية أشهر شرد آلاف العائلات وهجرهم من بلداتهم، هربًا من الطائرات الإسرائيلية التي تخترق جدار الصوت بهدف إخافتهم وترويعهم.
كما ساهمت عمليات الاغتيال التي تطال عناصر من حزب الله وحركة حماس والجماعة الإسلامية بشكل يوميّ في الجنوب اللبناني في نزوح آلاف الأسر، بالإضافة إلى القصف المتواصل لأحياء وعقارات في المناطق الجنوبية بهدف خلق منطقة عازلة في عمق 5 كيلومترات مربعة.
ويواجه نازحو البلدات الجنوبيّة فصلًا جديدًا من المعاناة، إذ يحتاجون إلى مساعدات غذائية ومالية ليتمكنوا من الصمود، وهم لا يعلمون مصيرهم ومستقبل أولادهم، ولا يدركون إن كانوا سيتمكنون بعد فترة من الرجوع إلى منازلهم، أم أن عقاراتهم ستكون مدمرة.
ومنذ بداية الحرب في جنوب لبنان، نزح أهالي البلدات الحدودية نحو بلدات جنوبية أخرى آمنة، وتوزعوا في شقق سكنية مفروشة قُدّمت لهم مجانًا من أصحاب الشقق، ولجأوا إلى فنادق مهجورة، ومدارس قديمة مقفلة غير مجهزة، ومراكز إيواء.
فيما عملت المنظمات الدولية على مساعدة العائلات في الأشهر الأولى من خلال تقديم مساعدات غذائية ومبالغ مالية بشكل شهري، كما حاولت بلديات القرى الجنوبية وضع خطط للطوارئ، لكنهم عجزوا عن تلبية جميع احتياجات النازحين، خصوصًا بعدما فاق عدد النازحين الـ 120 ألفًا.
وتفاقمت المعاناة بعد أن اضطر أهالي جنوب لبنان في البلدات الحدودية مع الاحتلال الإسرائيلي إلى إقفال محلاتهم وترك مصادر عيشهم والهروب إلى مراكز الإيواء، أو إلى عائلات مضيفة.
مناهل رمال (53 عامًا) من بلدة العديسة الحدودية انتقلت نحو المروانية، تروي معاناة أكثر من 80 عائلة متوزعة داخل مركز للإيواء في بلدة المروانية، وتقول إن العائلات تقيم حاليًا في هذا المركز وهو عبارة عن فندق مهجور، قاموا بتجهيزه وترتيبه وتنظيفه، وتوزعت العائلات في غرفه.
وبحسب مناهل، فإن المنظمات الدولية قامت بمساعدتهم ماليًا في الفترة الأولى، من خلال تقديم مساعدات عينية ومواد غذائية، ولكنهم اليوم يحتاجون إلى الكثير من المواد الأساسية والمستلزمات اليومية، كمواد غذائية، أدوية، وألبسة.
وتتأسف رمال على حال الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 25 عامًا، يجلسون بيننا من دون أي تصور عما سوف يعملون به، مشددة على أنّ “مستقبلهم ضاع”، وعند سؤالها عن أبنائها، تشير رمال إلى أن ابنتها الصغيرة تستكمل تعليمها في العاصمة بيروت، لكنها غير قادرة على زيارتها بسبب تكاليف النقل المرتفعة.
بالمقابل، يشير مروان ناصرالدين (44 عامًا) من بلدة الهبارية في قضاء شبعا إلى أن الأهالي يعانون من ارتفاع درجات الحرارة ويحتاجون إلى مراوح قابلة للشحن، فالمولد الكهربائي لا يعمل إلا لساعات محددة.
وأضاف المتحدث جميع أفراد العائلة الواحدة يتشاركون في غرفة واحدة ضيقة، وهناك عائلات مؤلفة من أكثر من 6 أفراد، يفترشون الأرض داخل الغرفة الصغيرة، وهم بحاجة أيضًا إلى مستلزمات التنظيف وغيرها.
ويروي مروان صعوبة نزوح أهالي الجنوب من منازلهم. ويؤكد: “لم يكن الأمر سهلًا، خسر ابني وظيفته وهو اليوم عاطل عن العمل وقمت ببيع أغراضي الشخصية كمفروشات منزلي وبعض مقتنياتي الذهبية، ونفكر في الهجرة خارج لبنان”.
بالمقابل، تقول النازحة فدوى رسلان، وهي من منطقة الخيام: “نزحت مع عائلتي إلى الفندق منذ 8 أشهر، والوضع مريح هنا. يقدم المركز لنا كافة الخدمات التي تسهل حياتنا، منها الطعام والشراب ومواد التنظيف”.
وتضيف المتحدثة في تصريح: “نعيش حياة شبه عادية، نجلس مع الجيران، ونتحدث سواء في الصباح أو في المساء. ونتكيف مع الوضع الحالي بعد نزوحنا من بلداتنا بسبب الحرب”.
وتضيف: “توفر لنا الدولة هنا كل شيء، نحن محظوظون بأننا جئنا إلى هنا بدلًا من المدارس. أصبح هذا المكان كمنزلنا، ونعيش الآن مع الجيران كأصدقاء”.
في ساحة الفندق، والذي كان لسنوات في جائحة الكورونا مركزًا للحجر الصحي للأمم المتحدة، يقيم النازحون جلسات يومية ليتبادلوا الحديث ويتشاركوا حكاياتهم وتجاربهم في رحلة النزوح والصمود في الحروب مع إسرائيل. يأتي كل شخص منهم من بلدة حدودية مختلفة، مثل كفر كلا، العديسة، الخيام، عيترون، عيتا الشعب، وغيرها.
فيما يقول نصري شمس الدين (39 عامًا) من عيترون إنه يحن لبيته وقريته ولعودة الحياة قبل الحرب، برغم توفر سبل الراحة في الفندق. ويروي قصة نزوحه مع عائلته في شهر تشرين الثاني المنصرم، أي بعد أقل من شهر على بدء الحرب، ويروي أنه منذ نزوحه لم يستطع زيارة “بقايا منزله” سوى مرة واحدة.
يؤكد الرجل أنه رغم توفر كل الأمور هنا برعاية المنظمات الدولية ولجنة الطوارئ الوطنية، إلا أن الحياة باتت تقتصر على الجلوس والحديث، ويؤكد صعوبة البقاء بدون عمل، ويضيف: “الآن، نحن بحاجة إلى العمل والإنتاج لتوفير المال وضمان قدرتنا على العيش”.
الدولة وأزماتها:
بدوره، يوضح سلام بدرالدين وهو مسؤول إدارة الكوارث في منطقة الزهراني في حديث أن عدد النازحين المتواجدين في منطقة الزهراني بلغ حوالى 1900 عائلة، ووضعوا في مراكز إيواء وفي شقق مفروشة لبعض المغتربين.
وأضاف المتحدث أنه تم نزوح الجنوبيين من البلدات الحدودية ومن بينها: “كفركلا، عديسة، حولا، بيت ليف، عيتا الشعب”، وتوجهوا نحو قضاء صور، النبطية، الزهراني، وكل هذه المناطق أصبحت ضمن مناطق الاستهداف.
ويؤكد بدرالدين أن المسؤولية باتت مضاعفة على البلديات، فالعائلات تحتاج إلى مساعدات يومية وإلى تكاليف مرتفعة جدًا، ونحاول تأمين القدر الممكن من هذه المساعدات، ولكن الوضع بات صعبًا جدًا.
وقال المتحدث: “نحن بحالة حساسة ودقيقة ولا نعلم كيف سيكون الوضع في اليوم التالي، لافتًا إلى أن الأحزاب السياسية لم تقدم أي دعم لأهالي الجنوب، وإنما حاولت الجمعيات تقديم أدوات التنظيف وبعض المواد الغذائية خلال فترات متقاطعة.
الامتحانات: التعليم في مهب الريح
وتتزامن هذه الظروف الحساسة مع اقتراب موعد الامتحانات الرسمية للطلاب. ومنذ كانون الأول الماضي، نزح الطالب أحمد (17 عامًا) برفقة عائلته من بلدة الطيبة نحو قضاء النبطية، واستقرت العائلة المؤلفة من 4 أشخاص في غرفة واحدة، وأقفلت المدارس أبوابها.
ويقول أحمد إن خيار النزوح لم يكن واردًا في بادئ الأمر، لكن بلدته باتت فارغة من جميع الأهالي، فاضطروا إلى الخروج منها، وصار خيار العودة صعبًا جدًا لأن الأحياء مدمرة وغالبية البيوت غير جاهزة للسكن، وتحتاج إلى أشهر طويلة لإعادة تعميرها وتجهيزها، كما أن جميع المحال التجارية قد أغلقت.
ما يعني أن بلدات جنوبية تحولت إلى مدن للأشباح، مدمرة وخالية من السكان. وداخل الغرفة، يحاول أحمد متابعة دروسه اليومية، لكن الظروف غير ملائمة، فشبكة الإنترنت ضعيفة جدًا، وارتفاع درجة الحرارة، والمولد الكهربائي يُطفئ في ساعات الليل، ويقول: “أحاول متابعة الحصص الدراسية بشكل يومي، ولكني لا أعلم إن كانت الامتحانات ستقام في موعدها الرسمي أم لا”.
في السياق نفسه، يوضح نائب رئيس بلديات صور، حسن حمود أن عدد العائلات النازحة التي سُجلت في صور بلغ حوالي 28 ألف نازح ، يتوزعون في مراكز للإيواء، مدارس خاصة، مدارس رسمية، وفي جامعة ألمانية.
وأضاف المتحدث أن اتحاد بلديات صور استطاع بالتعاون والتنسيق مع المنظمات الدولية تأمين اللوازم الأساسية للعائلات كالبياضات، الفرش الإسفنجية، ومواد غذائية، أما أصحاب مراكز الإيواء، فقد قدموا وجبات غذائية للأهالي بشكل يومي.
ويؤكد حمود أن احتياجات النازحين كثيرة ولكن التقديمات ضئيلة جدًا. فالعائلات حصلت على صناديق غذائية مجانية مرتين فقط طيلة الثمانية أشهر، ونعاني من نقص حاد في المستلزمات اليومية، لكن أهالي بلدات الجنوب يحاولون التكاتف والتعاون فيما بينها.
إذ يقوم عدد من المغتربين بتقديم مساعدات مالية بشكل دوري. المعاناة الأساسية تكمن في تقديم الطبابة لهم، لأننا لم نتمكن من توفير طبيب متنقل يشرف على النازحين. يقوم بمتابعة حالة المرضى بشكل يومي، إلا أن المريض الذي تتدهور حالته الصحية ويحتاج إلى عملية جراحية مستعجلة، سيضطر إلى اللجوء إلى المنظمات والجمعيات الدولية كي تساعده.
لافتًا إلى أن العديد من الأهالي خسروا مهنهم، ومن بينهم الكثير من المزارعين الذين خسروا موسم الدخان والزيتون. هذا عدا عن تداعيات السلبية الطويلة الأمد لحرق الأراضي الزراعية بالفوسفور الحارق.