لم تعد تحديات قطاع المياه منحصرة بمخاوف إمكانية وفرص الحصول على مصادر مياه جديدة وتلبية الطلب المتزايد، إنما باتت مرتبطة وبشكل “حرج” بمخاوف حدوث آثار وأعباء اقتصادية جمّة.
ويعاني القطاع المائي في المملكة، التي تصنف ثاني أفقر دولة في المياه على مستوى العالم، من تحديات مزمنة أدّت إلى تناقص الحصة السنوية من المياه للمواطنين لكافة القطاعات الاقتصادية، نتيجة عوامل عدة أبرزها التغيرات المناخية، حيث يتجاوز العجز المائي السنوي حوالي 400 مليون متر مكعب سنويا، مما أدى إلى استنزاف مصادر المياه الجوفية الحالية أيضا.
وفي ظل المخاوف المرتبطة بندرة المياه في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي الأردن بشكل خاص، تنامت دعوات إقليمية ودولية باتجاه “اهتمام عاجل وعمل متضافر، من خلال تبني التقنيات المتطورة، وتنفيذ السياسات الفعّالة، وتعزيز التعاون”.
هذا الأمر، شغل بال مختصين في قطاع المياه الأردني، أكدوا في تصريحاتهم، أهمية صياغة رؤية شاملة تأخذ في الحسبان الأبعاد المتشابكة والمترامية لتأثيرات ندرة المياه المنبعثة عن التغيرات المناخية.
ودعوا أيضا للحاجة الى نهج متكامل عبر محور المياه والغذاء والطاقة، لتخفيف وطأة المخاطر المرتبطة بالمياه وتحقيق مقاصد التنمية المستدامة.
وفي هذا السياق، ذكّر الخبير الدولي في قطاع المياه محمد ارشيد، بتقرير مدير صندوق النقد الدولي العام 2022، حول مخاطر ندرة المياه الناجمة عن التغير المناخي وتأثيرها الاقتصادي حين نبه من تجاوز التكاليف المترتبة على التغيرات المناخية كل التوقعات خاصة أن دول الشرق الأوسط ووسط آسيا، “ستشهد تواترا وشدة كوارث مرتبطة بالمناخ وعلى نحو أسرع من أي مكان في العالم، معتبرا أن تلك المخاطر تهدد نمو الدول على المدى الطويل وتفاقم من الوضع الاقتصادي.
وبتقييم ارشيد، فإن أبرز المخاطر التي ستنتج عن ندرة المياه المطلقة والتغير المناخي التي نعاني منها، حسب الخطة الرئيسة في وزارة المياه والدراسات لغاية العام 2040 هي، انخفاض الأمطار وارتفاع درجات الحرارة والذي سيؤدي لانخفاض التغذية الجوفية بنسبة 15 %، واستمرار انخفاض مستوى المياه في الآبار بسبب الضخ الجائر، حيث سينخفض من 254 مليون متر مكعب من المياه الجوفية الى 89 مليون متر مكعب العام 2040.
إلى جانب، هناك مخاطر زيادة الطلب على المياه، وتضرر معظم حقول الآبار في كافة مناطق المملكة، وانخفاض مستوى المياه في الآبار الذي سيتطلب طاقة أكثر بحوالي 40 % – 43 % من الآبار التي تستغل طبقة المياه الرئيسة وستكون غير قابلة للاستغلال (B2/A7)، بالإضافة لتملح الآبار الشرقية، وازدياد تركيز المعادن الثقيلة في المياه وهو ما سيحتاج لتحلية، فضلا عن تأثير ندرة المياه بشكل مباشر على القطاع الزراعي وهو أكبر المستهلكين للمياه.
وحول ما سيترتب على تلك الأعباء الاقتصادية؛ أوضح ارشيد أنه يتثمل في الحاجة لبنية تحتية جديدة من آبار وخزانات وخطوط مياه وغيره، ذات تكلفة عالية، وإيجاد مصادر مياه بديلة.
وبين أنه سيترتب أيضا عن تلك التحديات، تكلفة طاقة إضافية بنسبة 40 % من القيمة الحالية، وإقامة مشاريع جديدة لتعويض العجز المائي الكبير خاصة مشاريع تحلية المياه باهظة التكلفة، وتضرر القطاع الزراعي حيث يساهم حاليا بنسبة 6 % من الناتج المحلي الإجمالي ويشكل مصدر دخل 118 ألف أسرة، ويوظف 3 % من العمالة وسيؤثر بشكل مباشر على الأمن الغذائي وارتفاع أسعار الغذاء.
وأوضح الخبير الدولي في قطاع المياه أن التكاليف الاقتصادية للمشاريع التي تحد من آثار التغير المناخي خاصة الفيضانات والجفاف، وندرة المياه، تؤثر على إنتاج صناعة الخدمات بنسبة تتراوح بين 2.8-4.1 % “وهو ما يشكل خسارة في اجمالي القيم المضافة لقطاع لخدمات تتراوح بين 800 مليون دولار و 1.2 مليار دولار، كذلك زيادة التكاليف في القطاع الصناعي.
ودعا لأهمية اتخاذ جملة إجراءات لمواجهة تلك الآثار الاقتصادية، وتمثلت في أهمية رؤية شاملة تأخذ في الحسبان الأبعاد المتشابكة والمترامية لتأثيرات ندرة المياه المنبعثة عن التغيرات المناخية، والحاجة لنهج متكامل عبر محور المياه والغذاء والطاقة لتخفيف وطأة المخاطر المرتبطة بالمياه وتحقيق مقاصد التنمية المستدامة، واحتساب التكاليف المتوقعة لآثار التغير المناخي.
وذلك إلى جانب مشاريع بناء المنعة وإيجاد مصادر بديلة والبنى التحتية ومشاريع تحلية المياه واحتساب قيمة فاتورة الطاقة والعمل على ايجاد مصادر جديدة للطاقة تعتمد على الطاقة المتجددة وتحديد مشاريع بناء المنعة ضد التغير المناخي وتكلفتها، وتحديد تكاليف إمدادات المياه المستقبلية والتوسع في معالجة مياه الصرف الصحي وتوسيع شبكة الصرف الصحي، وتحديث الخطة الاستثمارية بناء على احتساب التكاليف المتوقعة، والاستمرار في المشاريع الحالية ووضع خطط ومشاريع قابلة للتنفيذ لتطبيق الإستراتيجية الوطنية للمياه 2023 – 2040.
من جانبه، لخّص الأمين العام الأسبق لسلطة المياه إياد الدحيات إطار المخاوف التي ترتبط بالتأثير الاقتصادي لندرة المياه الناجمة عن المناخ في الأردن بشكل خاص، في معاناة قطاع المياه من تحديات مزمنة أدّت إلى تناقص الحصة السنوية من المياه للمواطنين ولكافة القطاعات الاقتصادية وكل هذا يعود لما يشهده الاردن من تغير في المناخ، حيث وصل العجز المائي السنوي إلى 400 مليون متر مكعب سنوياً، مما أدى لاستنزاف مصادر المياه الجوفية الحالية.
إلى جانب ذلك، ارتفاع نسبة فاقد المياه بعد ازدياد الضغط على شبكات المياه الناتج عن زيادة السكان بشكل غير مسبوق، توازيا، وارتفاع الطلب على المياه كونه يستخدم كمورد أساسي في شتى القطاعات الاقتصادية بالمملكة من الصناعات الكيميائية والتعدينية والزراعية والغذائية والنسيج والمحيكات.
وأضاف الدحيات أن رؤية التحديث الاقتصادي جاءت لتكون بمثابة خريطة طريق محكمة للسنوات المقبلة لتحقيق النمو الشامل المستدام وتعتبر الضامن لاستمرارية التخطيط والتنفيذ والمرتكز الأساسي لكافة خطط وبرامج عمل القطاعات كافة لمواجهة التغير المناخي الذي نشهده.
وبين الأمين العام الأسبق لـ “المياه” أن “الرؤية” اشتملت على محرّك الموارد المستدامة، الطاقة والمياه، والذي تمّ فيه وضع نموذج مستدام لإدارة المياه في المملكة يوجّه نحو تحسين استخدام المياه وتعزيز الأمن المائي، بإعتباره الركيزة الأساسية لإفساح المجال للنمو الاقتصادي في المملكة والنهوض بحياة المواطنين.
وتابع أن حصة قطاع المياه من هذا المحرّك، حظيت بـ 10 مبادرات تشكّل الإطار العام لإستراتيجيات وسياسات وخطط وبرامج ومشاريع قطاع المياه والذي من أهم محاوره إدارة العرض والطلب على إمدادات المياه، وتشجيع الممارسات المستدامة لاستخدام المياه والقدرة على التكيف المناخي، وإطلاق مشاريع تحلية لتعزيز الأمن المائي، وتقليل نسبة الفاقد من المياه.
وأوضح الدحيات أنه “بناء عليه، تعمل الحكومة على تأمين التمويل المالي الرأسمالي المطلوب من الجهات التمويلية وأهمها البنك الدولي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، لتنفيذ البرامج والمشاريع الخاصة بمبادرات قطاع المياه في محرّك الموارد المستدامة في قطاع المياه بكافة مؤسساته”.
وفي الإطار ذاته، أكد ضرورة البدء بتطوير برنامج للشراكة بين القطاعين العام والخاص في قطاع المياه يتضمن مشاريع استثمارية ذات منفعة اقتصادية واجتماعية موجّهة نحو تنفيذ المبادرات، وإعادة هيكلة مؤسسات وشركات المياه الحكومية لتعزيز قدرتها ومنعتها للاستجابة للاحتياجات المائية المتزايدة لكافة القطاعات الاقتصادية وللمواطنين، وتخفيض خسائرها المالية المتراكمة ورفع كفاءتها التشغيلية وتقليل فاقدها المائي، وصيانة أنظمتها وبنيتها التحتية وفق أفضل الممارسات العالمية.
وأوصى بالتوازي مع ذلك، بأهمية التركيز على تنفيذ مشاريع تحلية المياه الكبرى، دون تأخير ووفق الجداول الزمنية الواردة في إستراتيجية قطاع المياه التي تمّ إعدادها بتشاركية مع كافة مكوّنات المجتمع الحل.
ومن المقرر أن يوفر المشروع، كميات مياه إضافية وكافية لتحقيق أهداف ومؤشرات رؤية التحديث الاقتصادي، وستوفّر في الموازنة المائية كميات مياه من مصدر مستدام تصل إلى 500 مليون متر مكعب سنوياً ستساهم في تحقيق الأمن المائي والاقتصادي في المملكة.
كما دعا لأهمية التواصل والحوار المستمر، واستخدام أدوات التواصل الإعلامي، وعرض مستجدات تنفيذ المبادرات وأثرها على المواطن وفي تحسين الواقع الاقتصادي، وذلك جنبا إلى جنب الاستمرار في تشجيع القطاعات الاقتصادية بتطبيق مبادرات خفض استهلاك المياه، وإعادة تدوير المياه والتي تسهم باستدامة هذا المورد وتخفيض الكلف التشغيلية، الأمر الذي سيترتب عليه زيادة تنافسيتها وفتح الأسواق التصديرية الخارجية لها.
من ناحيته، حذر الخبير الدولي في قطاع المياه د. دريد محاسنة، من تهديدات التغير المناخي المؤدي لتغييرات في درجات الحرارة، والمقدرة بارتفاع نحو 3 درجات مئوية سنويا، ما ينجم عنه تبخر كمية أكبر من مياه الأمطار، وما يؤدي لانخفاض وصول مياه الأمطار للمياه الجوفية.
وقال محاسنة إن التغير المناخي يساهم بشدة مؤخرا، في ظاهرة الفيضانات الومضية، وهي مياه يصعب استثمارها وتساهم بتخريب كبير، سواء كان ذلك على صعيد العمران، أو مناحي الحياة الأخرى.
وأضاف أن أي انخفاض في كميات المياه، سيؤدي لانخفاض في حجم المنتوج الذي يعتمد على المياه، وبالتالي ينعكس ذلك على الغذاء والزراعة.
ولكن فيما يرتبط بالحلول المؤكدة؛ فإن محاسنة أوصى بضرورة التصدي لفاقد المياه الناجم أيضا عن الاعتداءات على المياه أو السرقات الواقعة على مصادر المياه، والتي يصل حجمها في بعض محافظات المملكة، إلى 75 %.
ودعا أيضا لأهمية إعادة تغذية وشحن الآبار الجوفية، سيما وأنه في حال عدم تغذية الآبار الجوفية التي يتم الاعتماد عليها في الضخ إلى عمان، سيكون تأثير ذلك واضحا، وحينها يجب البحث عن مصادر مائية جديدة، ما يتوجب على الحكومة أهمية “السماح للقطاع الخاص نحو إمكانية حفر الآبار”.