خيّم على السودانيين حزن عميق برحيل عازف الفلوت الشهير أسامة بابكر التوم، المعروف بـ”أسامة بيكلو”. كان الراحل من أبرز صانعي نهضة الأغنية السودانية، وعمل مع أساطير الغناء والموسيقى في البلاد مثل الفنانين محمد وردي ومحمد الأمين. تميز أسامة بمهارة فائقة في استخدام آلة البيكلو، حتى وُصف بأن من يستمع إلى موسيقاه يشعر وكأن تراتيل دينية تتدفق خلف نغماته المثيرة للشجن، مما يلامس مشاعر المستمعين بعمق.
وفي سردية لمناقب الراحل قال الدكتور كمال يوسف الأستاذ المشارك بكلية الموسيقى والدراما بالسودان، : أسامة بيكلو اشتهر باسم آلته التي ارتبط بها، فأصبح معروفاً بأسامة بيكلو. لم يكن هذا الربط شكلياً فقط لمشاهدته وهو يعزف هذه الآلة، بل كان موضوعياً نتيجة إدراك مستمعيه لإجادته العزف عليها والعمل على إبراز طابعها الخاص المتسم بالخفة والقفزات الرشيقة وزخرفة الألحان”.
وذكر يوسف أن آلة البيكلو لها تاريخ مجيد في الموسيقى السودانية الحديثة، سطره الموسيقار الفذ موسى محمد إبراهيم منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين وحتى نهاية الستينيات منه. وأعطى البيكلو دوراً بارزاً في الأوركسترا السودانية وفي طابعها النغمي، و”طوّع الآلة رغم صعوبة العزف عليها حتى أصبحت بمثابة الناي في موسيقانا”، حسب تعبير يوسف.
ويمضي يوسف قائلاً : “لم يكن أسامة بعيداً عن موسى، فثمة صلة رحمٍ تجمع بينهما إلى جانب الجيرة في حي” الحلة الجديدة” بالخرطوم . كلاهما تأهل في مدرسة الموسيقى العسكرية، وأرسى موسى موقعاً معتبراً للبيكلو، وجاء أسامة ليشيد عليه مزيداً من الرسوخ والعلو. عُرِف أسامة مع صلاح بن البادية ومع محمد وردي، لكن ذاع صيته أكثر بعد ارتباطه بالفرقة الموسيقية المصاحبة لمحمد الأمين منذ ما قبل منتصف التسعينيات، فأعطاها طابعاً جديداً وأظهر من خلالها ما يكمن لديه من مهارات ومعرفة بأسرار البيكلو وكيفية سودنته، فأسر لُب مستمعيه حتى صار علامةً مميزة في موسيقى وحفلات محمد الأمين”، وفقا للعربية .
وأضاف يوسف: “لم يكن نجاح أسامة بيكلو الموسيقي نتيجة صدفةٍ أو فراغ في المكان، فعلى الرغم من ندرة الآلة عموماً وفي السودان بخاصة، إلا أن نجاحه كان نتيجة مثابرة طويلة بذلها أسامة منذ التحاقه بسلاح الموسيقى في رتبة (ولد) مطلع السبعينيات، وظل مواظباً على تطوير خبرته وملكاته الموسيقية. فالتحق بمعهد الموسيقى والمسرح واكتسب مزيداً من العلم والمعرفة، ثم سافر إلى دولة الإمارات وعمل في تعليم الموسيقى، ففتح لنفسه أبواباً جديدة للخبرة والمعرفة”.
لم تتميز تجربة أسامة بكونه عازفاً فقط، فهو مؤلف موسيقي أيضاً له مقطوعات عديدة أبرزها تلعب فيها البيكلو الدور الغنائي الأساسي. وهو يجيد التدوين الموسيقي وإدارة الأوركسترا وقيادتها. لكن أعظم ما يسم أسامة هو ما يتفق عليه الجميع من سماحة شخصيته، وأدبه الجم، وذوقه الرفيع.
إلى ذلك قال الناقد المرموق مصعب الصاوي : “برحيل الموسيقي الفذ أسامة “بيكلو” تُطوى صفحات باهرة في كتاب الموسيقى والإبداع السوداني، فالفنان أسامة لم يكن مجرد عازف بل كان دنيا من المحبة والتواصل الإنساني الجميل مع الأسرة الفنية والإعلامية بكل ألوان طيفها الإبداعي”.
وقيمة أسامة بيكلو- كما يؤكد الصاوي- تكمن في إحياء آلة البيكلو وإعادتها إلى الأوركسترا السودانية في ثوب متجدد وفريد وكان آخر عهد الأوركسترا بها أيام الموسيقار الراحل موسى محمد إبراهيم، الذي حفظت الأذن تجلياته العظيمة ومنمنماته على البيكلو في رائعة الفنان عثمان حسين ” الفراش الحائر” وفي إبداعات أغنية فترة الستينيات بالقرن العشرين “جملة دون تفصيل” وفي ألحان موسى نفسه للبلابل في أغنية “خاتم المنى” وفي غناء الفنانين عبد العزيز محمد داؤد وعثمان مصطفى.
ويشير الصاوي إلى أن أسامة “استطاع أن يسكب خمراً جديداً في قنانٍ قديمة من سلاف هذه الآلة الساحرة عبر مشاركته أوركسترا الفنان الموسيقار محمد الأمين والفنان صلاح بن البادية في نسخة معاصرة. فضلا عن أنه من أفضل كُتاب النوتة وإدارة الفرقة الموسيقية وهي ملكات اكتسبها بكاريزما تجمع بين الانضباط والمحبة والإنسانية. بجانب موهبته الفنية، برع أسامة بيكلو في كتابة النوتة الموسيقية ورئاسة عدة فرق موسيقية، وكان أستاذاً للموسيقى لسنوات طويلة في الإمارات العربية المتحدة، وأصدر ألبوماً موسيقياً كاملاً بعنوان “شيء في الخاطر” يضم مقطوعات على آلة البيكلو وآلات أخرى”.