أحسب أن ما انتابني من تأثر شخصي بالغ، حبست فيه دمعتي بصعوبة شديدة، وأن ما فاض في داخلي من مشاعر الفخر والاعتزاز والامتنان، لدى مشاهدتي رأس الدولة جلالة الملك عبد الله الثاني وهو يدفع بيده الكريمة، من الجو، صناديق الإغاثة الطارئة لأشقائنا المحاصرين في قطاع غزة المدمر، أقول وأحسب أن هذه العواطف كانت مشاعر مشتركة لأبناء شعبنا من هذا الحمى العربي المنيع، وكانت موضع ثناء واحترام وتقدير من كل الأردنيين لقائد وطنهم، الذي جسد بخطوته الرمزية الإنقاذية هذه، ما كان يعصف بنا جميعاً من ألم وغضب وتطلع مصحوب بالأمل، إزاء ما يتعرض له أهلنا في غزة هاشم من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي، تجري على مدار الساعة، دون أن يتحرك فيه العرب خطوة، أو يبادر ما يسمى المجتمع الدولي إلى اتخاذ مبادرة ضاغطة توقف المذبحة المنقولة عبر البث الفضائي المباشر بالصوت والصورة.
ليست هذه البادرة النبيلة أمراً جديداً على الملك عبد الله الثاني، فهو اب المبادرات، وصاحب المكرمات، وصانع النماذج الإنسانية، غير أن القيمة الاستثنائية المضافة لهذه العملية الإغاثية، التي قادها الملك بنفسه، وأشرف عليها، بمشاركة بعضا من أعضاء اسرته الملكية، تظل كامنة في حقيقة أنها سجلت لحظة صدق واحساس هاشمي أردني عميق، في إطار المعالجات والتدابير والإجراءات المتعلقة بمجريات الوقائع من الوجع والالم للشعب الشقيق، عبر القصف والقتل المتعمد المقصود المتواصل.
مبادرة الملك عبد الله الثاني، شقت طريقاً كان موصدا، إن لم نقل أنه كان يبدو مستحيلاً، وفتحت في الوقت ذاته باباً امام العرب وبعض الدول الغربية، لم يطرقه أحد من قبل، الأمر الذي ينبغي معه تسجيل الإغاثة من الجو، في زمن الحرب والتدمير والتجويع، كبراءة اختراع أردنية.
ولعل أشد ما تنطوي عليه هذه المبادرة من معنى ومغزى بالغي الأهمية، وما يتجلى فيها من قيم مبدئية، وديناميات ذاتية الدفع، هو كل هذا الشعور الابوي الدافئ، الصادر من قلب رب الأسرة الأردنية الكبيرة تجاه اشقاء وشركاء لنا في المصير وفي المسيرة نحو المستقبل، وكل هذا الحس العميق بالمسؤولية الوطنية والقومية والإنسانية والأخلاقية معاً، حيال أطفال ونساء وشيوخ تُركوا لأقدارهم العمياء امام قتلة الأنبياء وجهاً لوجه، تحت وطأة ثلاثية الموت والجوع والاوبئة، وسط حالة من الشلل التام والعجز، حتى لا نقول الخذلان بعينه، فجاءت المبادرة الملكية نقطة فارقة مضيئة في مسار مغلق بإحكام، وعملاً تأسيسياً لما بعده، تماماً على نحو ما شرعت به بعض الدول العربية والأوروبية، وربما الولايات المتحدة الأميركية لاحقاً، لعلها تتنبه في السير نحو الطريق الهاشمي القويم، متمثلة بالصنيع الأردني الخلّاق.
وبقدر ما كانت هذه البادرة الملكية الكريمة نموذجاً ملهماً للملتاعين من أمثالنا بمشاهد الدمار والقتل الجماعي، حيث احتذت حذوها دول في المحيط المجاور وفي العالم الغربي ايضاً، بقدر ما يجب ان تحثه هذه البادرة فينا، نحن أبناء هذه القلعة العربية الحصينة، من مشاعر حميمة مماثلة لمشاعر قائدنا حيال أبناء غزة، ومن حس جامع بالمسؤولية المشتركة تجاه غزة هاشم، كل حسب قدرته، لنجدة اشقاء باتوا على شفير المجاعة الحقيقية، وذلك كله لتعميم هذه التجربة السامية على أوسع نطاق ممكن، وجعل خطوة الملك هذه بمثابة ظاهرة وطنية أردنية بامتياز، قابلة للمحاكاة ومتاحة للبناء عليها كلما اقتضى الأمر، سيما وأن الخطر الداهم في قطاع غزة، قد يتكرر على نحو أدهى وأمر في القدس والضفة الفلسطينية، إذا ما نجحت دولة الاحتلال الاستيطاني الاجلائي البغيض، في تحقيق أحد أهم أهدافها بعيدة المدى، وهو تهجير الفلسطينيين من غزة نحو سيناء، ومحاولات تطبيق الأمر ذاته لاحقاً في الضفة المحتلة، نحو الأردن. ــ الراي