تلك قصة تحكي البدايات، بداية “وطن” قرر أهله أن يبددوا “العتمة” بالنور، وأن يخلعوا التبعية بالاستقلال، وأن يدخلوا المستقبل بقوة الإيمان بالأرض وبالإنسان.
كان المغفور له، الملك الباني، الحسين بن طلال طيب الله ثراه، يعلم تماماً بعِظَم المسؤولية الملقاة على كاهله وهو ما زال في ريعان الشباب، فذلك امتحان عسير، ومسؤولية عظيمة لو ألقيت على جبل لاهتز لها، فهذا شعب ربط مصيره بقيادة آمن بحكمتها وبأمانتها وبصواب قرارها، فكيف إذن يبقى جيشها بقيادة أجنبية، لا تنطق بلسان أهل الأرض، ولا تحلم “حلمهم” ولا ترنوا لمستقبل زاهر لهم.
قرر الملك، وعقد العزم، ليواجه كل عواصف قادمة، متسلحاً بحلم الشعب، وبإيمانه بالله قبل كل شيء، وبولاء وانتماء مواطنين قرروا قبل ذلك أن يبايعوا آل هاشم الأطهار الغر الميامين، لبناء وطن من “الصخر” ليدخلوا به العالم الجديد وهم أحرار .
قرر الملك وفعل، وفاجأ أعتى قوة في ذاك الزمن بأن يتحرر جيش بلاده من قيادتهم، وليصبح قائد جيش بلاده من أبناء الأرض، فاتخذ القرار الذي لم يتوقعه آنذاك القادة العسكريين البريطانيين، فعرّب قيادة الجيش العربي، والتعريب له من اسم الجيش نصيب، فباتت القيادة عربية أردنية خالصة، لا تتبع لأوامر إلا لأوامر القائد الأعلى للجيش، الملك نفسه الذي لا سلطان عليه إلا لله عزوجل، ولا مبتغى له إلا مصلحة بلاده وشعبه.
في الأول من آذار عام 1956، قرر الملك الحسين بن طلال، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 21 عاماً، إعفاء قائد الجيش العربي، وهو الضابط الانجليزي “غلوب باشا”، من منصبه إضافة إلى إعفاء كافة الضباط الانجليز، من مهاهم وفي كل المواقع، وعندما تسلّم رئيس الوزراء سمير الرفاعي قرار الملك، ذهل، فلم يعرف أحد مدى رد فعل دولة الانتداب البريطاني، لكن ذلك قرار ملك شاب شجاع بتخليص بلاده من آخر إرث للانتداب، فأخبر الرفاعي كلوب باشا بالقرار وطلب منه ومن معه من ضباط انجليز في مواقع قيادية بالمغادرة، فغادروا عمان إلى غير رجعة.
ولاحقاً أصبح اللواء راضي عناب أول قائد للجيش العربي، ثم تمت ترقية علي أبو نوار إلى رتبة لواء، وفي شهر أيار من عام 1956 حل محل عناب المتقاعد كرئيس للأركان.
تلك بعضُ من تفاصيل لواحدة من كثير من المحطات الأردنية التي تُسطَّر بأحرف من نور لوطن قرر أن يكون رقماً صعباً على وجه البسيطة، وبقيادة شجاعة استلهمت عزيمة من عزيمة شعب آمنت بحقه بأن يكون عنواناً رئيسياً في صفحات التاريخ وليس على الهامش.
ونحن نحتفل اليوم بهذه المناسبة الأغلى، فإننا في الوقت عينه ننظر بكل فخر واعتزاز الى جنودنا وصقورنا البواسل وهم يمدون يد العون الى الأهل في غزة رغم كل الظروف الصعبة، لكنهم متسلحين بعقيدة الجيش العربي الذي نذر نفسه لإغاثة كل شقيق عربي، فهذا أول عنوان أراده الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراه، من قرار التعربب، وهو ما يعززه الملك المعزز عبدالله الثاني بن الحسين أمد الله في عمره.