
اخبار ع النار-تُقدّمُ التقارير الصادرة عن دائرة الأحوال المدنية والجوازات صورةً بانوراميةً غاية في الأهمية عن أحوال الأردنيين: سكانيًا، فالتقارير تسجل الواقعات الحيوية للمواطنين: الولادة والزواج والطلاق والوفيات وكل ما يتعلق بها، كما تسجل بيانات غير الأردنيين.
وتتمثل أهمية هذه البيانات، بارتباطها المباشر بأحوال “الملايين” من المواطنين، وبتأثيرها الكلي والشامل، ونتائجها طويلة الأجل، فهي أساسية لراسمي السياسات ومتخذي القرارات والمخططين والباحثين، لكن رغم وفرة البيانات السكانية الصادر عن الجهات الرسمية، والجهد المبذول فيها، وسهولة الوصول إليها فإن التحليل يغيب عنها، ولا تحظى بالاهتمام الكافي.
سنحاول هنا تقديم تحليل لبيانات المواطنين الأردنيين وفق بيانات السجل المدني لدائرة الأحوال المدنية والجوازات للأعوام (2012–2024)، إذ تكشف التقارير السنوية أن الأردن يتجه نحو مرحلة ديموغرافية جديدة.
* تقلص عدد المواليد مع استمرار زيادة عدد السكان
وتتمثل ملامح المرحلة الجديدة في التراجع اللافت في عدد المواليد الأردنيين رغم استمرار النمو السكاني الإجمالي، فقد سجّل عام 2024 أدنى عدد مواليد منذ أكثر من عقد، حيث بلغ نحو 156 ألف مولود، أي أقل بنحو 16 ألفًا من المتوسط السنوي المسجل خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، ما يعكس انخفاضًا بنسبة تفوق الـ 9%.
وعند مقارنة هذا الرقم بذروة المواليد التي سُجلت في عام 2017 البالغة 188 ألف مولود، يتضح أن عدد المواليد في عام 2024 تراجع بنسبة تقارب 19% عن تلك الذروة.
فعند تحليل الاتجاهات الديموغرافية خلال الفترة (2012-2024) تكشف البيانات أن متوسط عدد المواليد الأردنيين يبلغ (172) ألف مولود سنويًا، وتظهر مؤشرات الانخفاض واضحة خلال السنوات الخمس الأخيرة بين (2020-2024) بمعدل مواليد سنوي (163) ألف مولود جديد، مقارنة مع الفترة السابقة (2015-2019) بمعدل مواليد وصل إلى (182) ألف مولود.
ويبرز عدد المواليد كأحد أبرز المؤشرات التي تنذر بتغيرات سكانية مستقبلية، حيث يُعد عدد المواليد عاملًا حاسمًا في الزيادة السكانية والنمو السكاني.
وهناك مؤشر مهم أيضا وهو معدل المواليد الخام إذ يقاس بعدد المواليد لكل ألف نسمة، فقد انخفض خلال العقد الأخير من 24.3 إلى 20.5، ما يعكس تراجعًا ملموسًا في النمو السكاني، لكن هذا المؤشر لم يخلُ من صعود وهبوط خلال تلك السنوات.
* التركيب العمري: أطفال أقل لكن أعباء أكبر
كما تكشف التقارير عن انخفاض طفيف ومستمر في نسبة صغار السن أقل من 15 سنة من (34.5%) عام 2014 إلى (31%) عام 2024، مقابل ارتفاع تدريجي في نسبة من هم في سن العمل (15-64) ووصولها إلى نسبة (64%) العام الماضي بعد أن سجلت نسبة (61%) من مجمل السكان قبل عشر سنوات، وكذلك زيادة طفيفة في نسبة كبار السن فوق الـ65 سنة بنصف نقطة خلال السنوات المذكورة، مما أدى إلى تحسن معدل الإعالة من حوالي 64% إلى 56% خلال ذات الفترة.
فهذا التباطؤ في زيادة عدد المواطنين يمكن أن يُحسن الواقع الاقتصادي على المدى البعيد، لوجود علاقة وثيقة بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي؛ ورغم ذلك، ما تزال هذه الفرصة بعيدة المنال على المدى القريب والمتوسط، وذلك بسبب التركيبة العمرية الحالية للمواطنين.
فإذا نظرنا إلى التركيب العمري للأردنيين، نلاحظ اتجاه نحو تقلص تدريجي في قاعدة الهرم السكاني المكونة من صغار السن، لكن هذه الفئة ما زالت كبيرة حيث نجد أن الفئة العمرية من (5 – 15) سنة التي تضم مواليد الأعوام (2010 – 2019)، الأكثر عدداً بين الفئات وتشكل نحو 21.2% أي (خُمس المواطنين)، وهي تمثل حالياً طلبة الصفوف الأساسية من (1-10) مما يعني أن الأردن يتحمل حاليا مسؤولية توفير التعليم العام والخدمات الصحية والاحتياجات المتعددة لهذه الفئة الكبيرة، وكذلك تحديات مستقبلية في توفير فرص التعليم العالي والتدريب والعمل والسكن والمياه وغيرها.
إضافة إلى عبء الاحتياجات الحالية والمستقبلية، فهناك اختلاف ظاهر في متطلبات “جيل ألفا” الأردني الذي ولد بعد عام 2011 الذي “وعي” بالكامل في عالم الهواتف الذكية والمقاطع المرئية والألعاب الإلكترونية، ولا يتخيّل العالم دون “نِت”، ويفضل استخدام منصات التواصل الاجتماعي الحديثة مثل إنستغرام وسناب شات وتيك توك ويتابع الجديد فيها.
ومع دخول تطبيقات الذكاء الاصطناعي أصبح أول جيل أردني يتفاعل معها منذ نعومة أظفاره، كما يعد من أكثر الأجيال ابتعادا عن مهن الآباء والأجداد التقليدية.
* عمان تستحوذ على (40%) من سكان الأردن ومواليده الجُدد
وعند متابعة التوزيع الجغرافي لعدد الولادات حسب المحافظات، تكشف البيانات أن محافظة العاصمة تشكل حوالي (40%) من عدد المواليد سنويا (مولود أردني جديد) في اتجاه صعودي تدريجي، فعمان تنمو سكانيًا كما تنمو عمرانيًا وجغرافيًا، إذ تتفوق محافظة العاصمة (عمان) على عشر محافظات مجتمعة في عددي المواليد والسكان وذلك إذا استثنينا محافظة اربد التي تضم نحو (20%) من نسبة المواليد سنويًا والسكان كذلك.
وتحل ثالثا محافظة الزرقاء بنسبة حوالي (10%)، ونلاحظ هنا: الثبات في ترتيب هذه المحافظات الثلاث ذات الكثافة السكانية العالية من ناحية: عدد السكان والمواليد طوال الفترة المذكورة (2012-2024).
ثم تأتي في الربع الثاني محافظات المفرق ثم البلقاء فالكرك: سكانا ومواليد، ويظهر في ترتيبها استقرار محافظة المفرق في المركز الرابع على مستوى المملكة في عدد المواليد المواطنين خلال السنوات الأخيرة بعد أن كانت في المركز السادس متقدمة على محافظتي البلقاء والكرك، وكذلك صعود نسبتها من إجمالي المواليد من (3.2%) عام 2015 إلى (5.21%) عام 2024.
في حين يضم الربع الثالث -حسب نسبة المواليد الأردنيين- محافظات: عجلون ومأدبا والعقبة، وهنا نلاحظ صعود كبير لمحافظة عجلون من الترتيب الثاني عشر – في بعض الفترات- إلى الاستقرار في المركز السابع في نسبة الإنجاب إذ ارتفعت من (2.4%) إلى (3.13%) خلال العقد الأخيرة.
وفي الربع الرابع تأتي محافظات: معان والطفيلة وجرش، مع ملاحظة أن محافظتي الطفيلة وجرش سجّلتا أقل عدد المواليد بين المحافظات الأردنية خلال العقد الأخير، وكذلك نلاحظ هنا تراجع في عدد مواليد محافظة جرش بعكس جارتها عجلون، ما يطرح تساؤلات حول الفروقات في العوامل الاجتماعية والاقتصادية بين المحافظتين الجارتين.
وهنا لا بد من الإشارة إلى متوسط عدد المواليد الأجانب خلال الفترة المذكورة الذي تجاوز الـ(26) ألف مولود جديد غير أردني، وقد تصدّرت العاصمة عمّان هذه النسب بنحو (40%)، تلتها محافظات: إربد، والمفرق، والزرقاء على الترتيب حيث سجّلت كل منها نسبًا تفوق (10%)، أما محافظتا البلقاء وجرش فقد سجلتا نسبًا تقارب (4%)، في حين لم تتجاوز نسب المتوسطات للمواليد غير الأردنيين في بقية المحافظات حاجز (2%)، مما يعكس تركزًا واضحًا في مناطق محددة يرتبط غالبًا بعوامل اقتصادية واجتماعية وجغرافية.
* انخفاض في الزواج واستقرار في الوفيات
وإذا انتقلنا إلى تحليل الاتجاه العام لحالات زواج المواطنين في الفترة (2012-2024): يتبين أن العام 2024 شهد زيادة جزئية في عدد الحالات حيث بلغت نحو (51) ألف حالة زواج مقارنة مع السنتين السابقتين، إلا أن هذا الرقم لا يزال دون المعدلات المسجلة قبل عام 2017 والتي بلغت في المتوسط نحو (54) ألف حالة زواج سنويًا على مدار ست سنوات سابقة.
على الرغم من هذا الارتفاع النسبي في عدد الزيجات عام 2024، فإن الاتجاه العام يكشف عن انخفاض في معدل الزواج عند النظر إليه كنسبة من عدد السكان وبمتوسط سنوي (51) ألف حالة زواج سنويًا، وعليه، يمكن القول إن هناك انخفاضًا في معدلات الزواج مقارنة مع الزيادة السكانية.
وعند رصد التطور الزمني لحالات وفيات الأردنيين حيث يُعد مؤشر الوفيات أحد العوامل المؤثرة في معدل الزيادة الطبيعية للمواطنين الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعدل المواليد، فقد بلغ عدد الوفيات عام 2024 نحو (27.5) ألف وفاة، بانخفاض عن الذروة التي سجلت عام 2021 بـحوالي (36) ألف وفاة التي ارتبطت مباشرة بجائحة كورونا، وهو ما جرى أيضًا في عام 2020 من ارتفاع ملحوظ يعود لتأثير الجائحة، فبعد الارتفاع، عاد الاستقرار إذ سجّل العام 2022 فصاعدًا، تراجعاً تدريجياً وعودة إلى المعدلات الطبيعية.
كما يظهر التحليل أن الجائحة رفعت الوفيات بشكل مؤقت، لكن الاتجاه العام يشير إلى استقرار نسبي بفضل تحسن الرعاية الصحية، ليسجل معدل وفيات الأردنيين حوالي (26) ألف وفاة سنويًا.
وساهم التراجع الملموس في معدلات الإنجاب، والانخفاض النسبي في معدلات الزواج، واستقرار معدلات الوفيات بتقلص معدل الزيادة الطبيعية للأردنيين من 2.6% في عام 2014 إلى 1.7% في عام 2024.
* سكّان أقل… تغيّرات أكثر
مع نهاية العام الماضي وصل عدد الأردنيين إلى (8.8) نسمة وفق سجلّات الأحوال المدنية، بينما تشير تقديرات دائرة الإحصاءات العامة إلى أن عدد سكان الأردن الكليّ بمن فيهم غير الأردنيين قارب الـ (11.7) مليون نسمة، إذ شكّل غير الأردنيين، والبالغ عددهم نحو 2.9 مليون نسمة، ما يقارب 25% من إجمالي عدد السكان، وهنا لا بد من الإشارة إلى عامل مهم أخر وهو التراجع الحاصل حاليا في صافي الهجرة نتيجة العودة التدريجية لعدد من اللاجئين السوريين، والاستقرار النسبي في أوضاع الإقليم.
يُظهر التحليل الديموغرافي للأردنيين خلال العقد الماضي أن الأردن شرع بالدخول في مرحلة تحوّل ديموغرافي واضحة، تتجاوز المؤشرات السكانية التقليدية، لتشمل تغيرات في السلوك الاجتماعي والإنجابي أبرزها تراجع معدلات الإنجاب العالية متأثرة بتأخر سن الزواج، والارتفاع المستمر في تعليم الفتيات وعملهن، وتزايد استخدام وسائل تنظيم الإنجاب، وتحسن الرعاية الصحية، وظهور أجيال جديدة لديها اهتمامات مختلفة؛ وهي تحولات عميقة تفرض سياسات جديدة.