البيئة لا تصان بالنوايا: متى تتطابق التوعية مع التشريع؟

البيئة لا تصان بالنوايا: متى تتطابق التوعية مع التشريع؟

بقلم: طارق راتب عبيدات

في كل عام، تُطلق في الأردن عشرات المبادرات البيئية. تُنظَّم حملات تنظيف، وتُزرع الأشجار، وتُعلَّق شعارات تحثّ الناس على التفكير الأخضر. لكن وسط كل هذا النشاط، يظلّ هواء عمّان محمّلًا بالملوثات، والازدحام اليومي يبتلع ما يقارب 1.9 مليون مركبة تتحرك داخل حدود العاصمة وضواحيها.
الوعي وحده لا يُغيّر الواقع، ما لم يُترجم إلى تشريع واضح يربط السلوك بالمسؤولية، والتلوث بالتكلفة.

تُظهر بيانات وزارة البيئة لعام 2024 أن متوسط تركيز الجسيمات الدقيقة (PM2.5) في العاصمة تجاوز الحدود الآمنة الموصى بها من منظمة الصحة العالمية بنحو 250%، وهي النسبة الأعلى في المنطقة بعد القاهرة.
هذه الملوثات مصدرها الرئيسي قطاع النقل، الذي يستهلك أكثر من 2.8 مليار لتر من المشتقات النفطية سنويًا. ومعظم الانبعاثات تأتي من السيارات القديمة التي يزيد عمرها على 15 عامًا، والمركبات الثقيلة العاملة بمحركات ديزل منخفض الجودة.

النتيجة ليست مجرد دخان رمادي يعلو الجبال، بل تكاليف صحية واقتصادية مباشرة. تقرير البنك الدولي الأخير قدّر الخسائر الناتجة عن تلوث الهواء في الأردن بما يعادل 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا — أي أكثر من 700 مليون دينار تُهدر بسبب أمراض تنفسية وفقدان إنتاجية. ومع ذلك، لا توجد حتى اليوم منطقة واحدة في عمّان أو الزرقاء تُطبَّق فيها قيود بيئية على دخول المركبات الملوِّثة.

في المقابل، تحوّلت مدن مثل ميلانو وباريس إلى مختبرات مفتوحة للتشريعات البيئية. فـ”منطقة الانبعاث المحدود” في ميلانو خفّضت تركيز أكاسيد النيتروجين بنسبة 33% خلال خمس سنوات، بينما فرضت باريس “ضريبة ازدحام بيئية” تتراوح بين 2 و6 يورو يوميًا على المركبات عالية الانبعاث. هذه الإجراءات لم تُقابل بالرفض، بل تحوّلت إلى جزء من وعي الناس بحقهم في بيئة صحية.

الأردن لا يحتاج نسخ تجارب الآخرين، بل يحتاج إرادة تشريعية تبدأ من واقعه. يمكن لأمانة عمّان وهيئة تنظيم النقل ووزارة البيئة أن تطلق مشروعًا تجريبيًا لمنطقة خضراء في أحد أحياء العاصمة، مثل عبدون أو الشميساني، تُمنع فيها المركبات ذات محركات الديزل القديمة، وتُعفى المركبات الهجينة والكهربائية من رسوم الوقوف. ويمكن ربط هذه المنطقة بنظام نقل عام كهربائي مصغّر يشغّل حافلات بسعة محددة وبتردد كل 5 دقائق. تكلفة التجربة لا تتجاوز كلفة حملة توعوية كبيرة، لكن أثرها التشريعي سيكون مضاعفًا.

ثم بعد ذلك، تعمل الجهات المعنية أن تذهب باتجاه إنشاء صندوق وطني لجودة الهواء يُموَّل من رسوم بيئية على تراخيص المركبات الملوِّثة. هذه الرسوم يمكن أن تبدأ بمبلغ رمزي — دينارين أو ثلاثة سنويًا — لكنها ترسل رسالة واضحة: أن التلوث لم يعد مجانيًا. الأموال المحصَّلة يمكن أن تُوجّه لشراء حافلات خضراء، أو دعم مشاريع النقل الكهربائي بين المحافظات.

المواطن الأردني لم يعد بحاجة لمن يخبره أن البيئة مهمة؛ هو يرى الغبار والاختناق يوميًا في طريقه إلى عمله. ما يحتاجه هو دولة تقرّ بأن البيئة مسؤولية قانونية لا وعظية، وتشريع يربط جودة الهواء بحق المواطن في الحياة الكريمة.

فالبيئة — مثلها مثل العدالة والأمن — لا تُصان بالنوايا، بل بالقوانين. وعندما تسير في شوارع عمّان مركبات أقل دخانًا، وحافلات أكثر التزامًا، ويصبح الهواء أنقى من الضجيج، عندها فقط يمكن القول إننا تحرّكنا نحو بيئة لا تركب سيارة خاصة، بل تسير على طريقٍ قانونيٍ واضحٍ ومستدام.

Read Previous

شركة زين الأردن تُطلق برنامج توجيه (Coaching Program) لموظفيها

Read Next

العيسوي يرعى فعاليات يوم طبي مجاني في نادي خريجي الكلية العلمية الإسلامية بعنوان (صحة العمر الذهبي)

Most Popular