فاجعة الميثانول… حين يصبح الفساد جريمة أكبر من السمّ !!

فاجعة الميثانول… حين يصبح الفساد جريمة أكبر من السمّ !!

لم تكن فاجعة الميثانول التي أودت بحياة تسعة مواطنين وأصابت آخرين في الأردن مجرد حادثة تسمم جماعي ، ولم تكن مجرد نتيجة لتناول مشروبات كحولية مغشوشة ، هي مأساة تُجسّد خللًا أعمق بكثير من زجاجة فاسدة أو محتوى سام ، إنها كارثة تكشف عن ثقوبٍ واسعة في شبكة الرقابة، وتُظهر حالة انهيار في منظومة يفترض أنها مسؤولة عن حماية الأرواح قبل الأنظمة .
الضحايا ليسوا مجرد أرقام ، هم بشر فقدوا حياتهم وسط صمت قاتل وأسئلة مُعلّقة ، البعض يهرب إلى الوعظ الأخلاقي : ” لماذا شربوا ؟ هذا جزاؤهم ! ، لكن الحقيقة أن من ماتوا أصبحوا بين يدي الرحمن الرحيم ، وليس لأحد من الناس أن يكون حَكمًا على نواياهم أو مصيرهم ، مَنْ يجب أن يُحاسب الآن هو من سمح بأن تُروّج وتُوزّع مواد سامة كالميثانول ، ومن تستّر على منتجيها ، ومن تقاعس عن محاسبة من سمّم المجتمع بمنتج قاتل .
السؤال الأخطر : كيف وصلنا إلى هنا ؟ كيف انتشرت مشروبات فاسدة في الأسواق ؟ من سمح بتوزيعها بهذهِ الطريقة ؟ ومن تواطأ ؟ أو صمت ، أو غض الطرف ؟ لماذا تم التعامل مع الكارثة في بدايتها على أنها “حادثة فردية” ، قبل أن تتسع لتشمل محافظات متعددة ؟ ولماذا لا تزال هوية الفاعلين الحقيقية غامضة ؟ هل هم “أقوى” من القانون ؟ أم أن هناك ما هو أخطر خلف هذه القضية ؟ .
القلق لا يتوقف عند المسؤولية الصحية أو الرقابية ، بل يمتد إلى توقيت الحدث ، ففي زمن مشحون سياسيًا واقتصاديًا ، وتوتر إقليمي غير مسبوق ، هل بات اختلاق الأزمات وسيلة لتشتيت الرأي العام ؟ هل نحن أمام “أزمة مفتعلة” لتُغطي على ما هو آت ؟ هذه الأسئلة لا تنطلق من نظرية مؤامرة ، بل من واقع اعتدنا فيه على أن يُقتل السؤال قبل أن يُولد الجواب .
إن التستر على المسؤولين عن هذه الجريمة يُعد جريمة أكبر ، فليس من المنطقي أن تُزهق أرواح دون أن يكون هناك من يقف أمام القضاء علنًا ، وليس من المقبول أن يتم حصر المسألة في بضعة موظفين صغار ، بينما الشبكة الأوسع تبقى خارج دائرة الاتهام .
كارثة الميثانول ليست حدثًا عابرًا ، بل مؤشر خطير على هشاشة الرقابة ، وغفوة المؤسسات ، وتخلي البعض عن مسؤوليته الأخلاقية والوطنية ، فلو كان هؤلاء الضحايا سقطوا في تفجير إرهابي لا سمح الله لأعلنت البلاد الحداد ، وفتحت الأجهزة الأمنية كل ملفاتها ، أمّا وأنهم ماتوا بـ”كأس” فهذا يَغفِرُ للفاعل وتُغلق القضية بختم إداري ؟ .
المطلوب اليوم ليس فقط محاسبة المتورطين ، بل مراجعة شاملة للسياسات الرقابية ، وإعادة النظر في آليات التوزيع والترخيص ، وسن تشريعات واضحة وصارمة تحمي المجتمع من أي منتج قاتل ، أيًّا كان شكله أو غلافه أو مصدره .
الموت لا يفرق بين مذنب وبريء ، والعدالة لا تُجزّأ ، ومن حق كل مواطن أن يأمن على حياته ، حتى لو أخطأ ، ومن واجب الدولة أن تكون راعية ، لا مراقبًا عن بُعد ، أما إذا تحوّلت أرواح الناس إلى أرقام تُطوى في ملفات مغلقة ، فنحن أمام مأساة أكبر من الميثانول… نحن أمام انهيار في القيمة التي يجب أن تُصان قبل أي شيء : قيمة الإنسان !! هَل نسمع جوابًا ؟ أرجو ذلك .
المحامي فضيل العبادي
رئيس اللجنة القانونية / مجلس محافظة العاصمة

Read Previous

الأمن العام: إخفاء لوحات الأرقام أو التلاعب بها فعل يثير الشبهات

Read Next

ترامب يعلن موافقة إسرائيل على هدنة بغزة لمدة 60 يوما

Most Popular