ألقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعها التاسع والسبعين في نيويورك.
وتاليا نص كلمة عباس:
“آتي إليكم اليوم وشعبي يتعرض منذ سنة تقريباً ولا يزال، لجريمة من أبشع جرائم العصر، جريمة حربٍ شاملة وإبادة جماعية تشنها إسرائيل، دولة الاحتلال، جريمة ذهب ضحيتها حتى الآن أكثر من40 ألف شهيد، ولا يزال الآلاف تحت الأنقاض، كما جُرِحَ أكثر من 100 ألف آخرين، وأُبيدت مئات الأُسر الفلسطينية بأكملها وشطبت من السجل المدني، كما فَقَد الآلاف أرواحهم بسبب انتشار الأمراض والأوبئة ونقص الدواء والماء، فضلاً عن أكثر من مليوني فلسطيني نزحوا من بيوتهم لمرات عديدة بحثاً عن الأمان من عمليات القتل الممنهج التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي. ومع استمرار الحرب العدوانية، لا يزال يُقتل كل يوم العشرات، ويُجرح أضعافهم من أبناء شعبنا المكلوم في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية والقدس.
ولستُ هنا بصدد الرد على أكاذيب رئيس الوزراء الإسرائيلي، في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي في شهر يوليو الماضي، حين زعم أن جيشهُ لا يقتل المدنيين الأبرياء في غزة. فبالله عليكم من هو إذاً الذي قَتَل أكثر من 15 ألف طفل ومثلهم من النساء والشيوخ من أبناء شعبنا ولا زال يقتل؟ أجيبوني!
أوقفوا هذه الجريمة، أوقفوها الآن. أوقفوا قتل الأطفال والنساء. أوقفوا حرب الإبادة. أوقفوا إرسال السلاح لإسرائيل. لا يُمكن لهذا الجنون أن يستمر. إن العالم بأسره يتحمل المسؤولية إزاء ما يجري لشعبنا في غزة، وكذلك في الضفة الغربية التي تتعرض لعدوان إسرائيلي يومي متواصل، وحملة استيطان شرسة وهمجية، وإرهابٍ من عصابات المستوطنين ترعاه وتدعمه الحكومة الإسرائيلية وجيش الاحتلال، الذي يهدم مئات المنازل في أرض دولة فلسطين، إضافة إلى ما تتعرض له القدس عاصمتنا الأبدية، من حملات التهويد والعدوان على المدينة ومقدساتها ومعالمها لتغيير الوضع التاريخي والقانوني فيها.
لقد خرج علينا مؤخراً وزير إسرائيلي إرهابي متطرف يدعو لبناء كنيس في المسجد الأقصى. يجب إدانة ووقف هذا الوزير الأهوج وأمثاله الذين يريدون إشعال حرب دينية تحرق الأخضر واليابس. المسجد الأقصى وما حوله، أيها السيدات والسادة، مُلك حصري للمسلمين، وهذا ما أقرته عصبة الأمم في العام 1930، ولن نقبل بغير ذلك مهما كانت الظروف.
لقد حذرنا مراراً وتكراراً أمام جمعيتكم الموقرة، بأن الأوضاع في أرض دولة فلسطين المحتلة تُنذر بالانفجار، ولقد حدث هذا الانفجار يوم 7 أكتوبر من العام الماضي وما تلاه.
ومنذ اليوم الأول، وقَفتُ وأكدتُ على ضرورة الوقف الفوري للحرب، كما أكدتُ رفضنا لاستهداف المدنيين أياًّ كانوا، وطالبت بإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين من الجانبين، والجلوس فوراً إلى طاولة المفاوضات لتنفيذ حل الدولتين على أساس قرارات الشرعية الدولية.
وبدلاً من أن تُصغي الحكومة الإسرائيلية لصوت العقل، استغلت ما حدث لشن حرب إبادةٍ جماعية شاملة على قطاع غزة، وارتكبت ولا تزال ترتكب جرائم حرب باعتراف المجتمع الدولي. وها هي إسرائيل اليوم تشن عدواناً آخر على الشعب اللبناني الشقيق، وإننا ندين هذا العدوان ونطالب بإيقافه على الفور.
لقد أعادت إسرائيل احتلال قطاع غزة بأكمله، ودمرته بشكل شبه كامل، حتى يصبح مكاناً غير صالح للحياة، بعد أن جرى تدمير معظم المساكن والمباني والمرافق الصحية والتعليمية، والمنشآت الاقتصادية والطرق والكنائس والمساجد ومحطات المياه والكهرباء ومعالجة المياه العادمة وغيرها. وإذا ظنّت إسرائيل أنها ستنجو من المساءلة والعقاب على هذه الجرائم، فهي واهمة. على المجتمع الدولي أن يشرع فوراً في فرض العقوبات عليها. إن المذابح والجرائم والإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل بحق شعبنا منذ قيامها وحتى يومنا هذا لن تمر بدون حساب، ولن تسقط بالتقادم، فما ضاع حق وراءه مطالب.
ورغم مطالبتنا الملحة والمتكررة، لم ينجح العالم في إجبار إسرائيل، الدولة المارقة، على وقف حرب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ضد السكان المدنيين الأبرياء، ويؤسفنا أن الإدارة الأمريكية عطّلت ثلاث مرات مشاريع قرارات لمجلس الأمن تطالب إسرائيل بوقف إطلاق النار باستخدامها الفيتو، وفوق ذلك زودتها بالأسلحة الفتّاكة التي قتلت آلاف الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وهو ما شجع إسرائيل على مواصلة عدوانها.
هذه هي الولايات المتحدة نفسها التي كانت العضو الوحيد في مجلس الأمن الدولي الذي صوت ضد إعطاء دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. أنا لا أفهم كيف تصر الولايات المتحدة على الوقوف ضد شعبنا، وتصر على حرمانه من حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال.
إن إسرائيل التي ترفض تنفيذ قرارات الأمم المتحدة غير جديرة بعضوية هذه المنظمة الدولية، وإسرائيل التي يقول مندوبها في هذه المنظمة الدولية إنه يجب إزالة مبنى الأمم المتحدة هذا، الذي نحن فيه الآن، من فوق الأرض لا تستحق أن تكون عضواً في منظمتكم، وهي في الأساس، ومنذ البداية، لم تفِ بشروط نيل هذه العضوية. فقد كان عليها أن تُنفِّذ قراري الجمعية العامة رقم 181 و 194 كشرط لقبول عضويتها وتعهدت بذلك كتابياً ولم تفعل. ولذلك فإنني أُطالب جمعيتكم الموقرة بتجميد عضوية إسرائيل في الجمعية العامة إلى حين تنفيذ التزاماتها وشروط قبول العضوية فيها، وتنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة وهيئاتها، وسوف نتقدم بطلب إلى رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الشأن.
أغتنم الفرصة اليوم لأشيد بالدول الأعضاء في الأمم المتحدة، التي صوتت بأغلبية أكثر من الثلثين لصالح مشروع القرار الذي تقدمت به دولة فلسطين، مدعومةً بعددٍ كبير من الدول الصديقة والشقيقة، لاعتماد الرأي الاستشاري التاريخي الذي صدر في 19/7/2024 عن محكمة العدل الدولية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي لدولة فلسطين خلال اثني عشر شهراً، بما في ذلك الوقف الفوري للضم وللأنشطة الاستيطانية، وتفكيك المستوطنات القائمة، وإخراج المستوطنين من الأراضي الفلسطينية، وإعادة الأراضي والموارد المصادرة منذ العام 1967، وجبر الضرر وتعويض الفلسطينيين عما لحق بهم جراء السياسات غير القانونية وممارسات الاحتلال، وغيرها من المسائل العديدة التي جاءت في فتوى المحكمة، وإلزام إسرائيل بالتنفيذ.
إننا نعول كثيراً على قراركم هذا، الذي يجسد الإرادة الدولية ومبادئ القانون الدولي وعلى الآليات التي اعتمدت في هذا الشأن لضمان التنفيذ.
إنني أشعر اليوم بالامتنان أيضاً، وأنا أرى هذا التحول الكبير في مواقف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وهي تؤيد الحق الفلسطيني في الحصول على الدولة المستقلة والاعتراف بها، ومنحها العضوية الكاملة في هذه المنظمة الأممية أسوة ببقية شعوب العالم التواقة للحرية والمحبة للسلام. إنني وباسم الشعب الفلسطيني أشكركم على هذه المواقف الداعمة للحق والعدل لتحقيق السلام في منطقتنا، وأدعوكم إلى تنفيذ أحكام القانون الدولي كل بحسب مسؤولياته وسيادته.
كما أشعر بالامتنان والتقدير أيضاً للاحتجاجات المعارضة لحرب الإبادة على غزة، والمناصرة للحق الفلسطيني، التي جرت وتجري في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وللمتضامنين الشرفاء الذين يأتون إلى فلسطين مخاطرين بحياتهم، وأترحم في هذا السياق على المناضلة الشهيدة المواطنة التركية الأمريكية، عائشة نور، التي قتلها جيش الاحتلال بدمٍ بارد.
وأقول لهؤلاء، إن الشعب الفلسطيني لن ينسى لكم مواقفكم المُشرِّفة، وسوف نذكركم بكل فخر واعتزاز يوم يزول الاحتلال ويحظى شعبنا بالحرية والاستقلال.
كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن اليوم التالي لنهاية الحرب في قطاع غزة. إنني أغتنم الفرصة اليوم، لأقدم لكم رؤيتنا لما هو مطلوب عمله على الفور ولليوم التالي للحرب:
أولاً: الوقف الشامل والدائم لإطلاق النار في قطاع غزة، والاعتداءات العسكرية وهجمات المستوطنين الإرهابيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
ثانياً: إدخال المساعدات الإغاثية بصورة عاجلة ومنتظمة وبكميات كافية وبدون شروط، وإيصالها لمناطق قطاع غزة كافة.
ثالثاً: الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، ورفض إنشاء مناطق عازلة أو اقتطاع أي جزء من أراضيه، ووقف إجراءات التهجير القسري داخل قطاع غزة أو خارجه، وعودة النازحين إلى مناطق سكناهم وتوفير المأوى لهم.
رابعاً: حماية الأونروا والمنظمات الإنسانية، من التعسف الإسرائيلي وتوفير الدعم السياسي والمادي لها كي تتمكن من أداء دورها وتقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين إلى حين عودتهم إلى ديارهم.
خامساً: توفير الحماية الدولية للفلسطينيين على أرض دولتهم المحتلة.
سادساً: تولي دولة فلسطين مسؤولياتها في القطاع لتمارس ولايتها الكاملة عليه، بما في ذلك المعابر الحدودية، وعلى رأسها معبر رفح الدولي بين مصر وفلسطين، كجزء من خطة شاملة.
سابعاً: وفي إطار عملية الإصلاح الوطني الشامل نقوم بإعادة بناء البنية التحتية ومؤسسات الدولة التي دمرتها إسرائيل، وإنعاش الاقتصاد، والتنمية المستدامة، وإعادة إعمار قطاع غزة، وتحميل دولة الاحتلال مسؤولية ذلك.
ثامناً: بسط سلطة دولة فلسطين والحكومة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، على جميع الأراضي الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، تمهيداً لإجراء الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية فيها، وتشكيل حكومة فلسطينية، وفقاً لنتائج هذه الانتخابات.
تاسعاً: الاستمرار في حشد أكبر دعم دولي من أجل حصول دولة فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة بأسرع وقت ممكن.
عاشراً: التنفيذ الكامل لقرار الجمعية العامة المتعلق بالفتوى القانونية لمحكمة العدل الدولية، بما يؤدي لإنهاء الاحتلال خلال إثني عشر شهراً، حسبما ورد في الفتوى.
أحد عشر: عقد مؤتمر دولي للسلام تحت إشراف الأمم المتحدة خلال عام لتنفيذ حل الدولتين، وتجسيد استقلال الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين الفلسطينيين، على أساس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية.
اثنا عشر: اعتماد قوات حفظ سلام دولية بقرارٍ من مجلس الأمن بين دولة فلسطين وإسرائيل، لضمان أمن الدولتين.
هذه هي عناصر رؤيتنا لليوم واليوم التالي للحرب في أرض دولة فلسطين بشكل عام. وإنني أناشدكم لتبنّي هذه الخطة وتوفير جميع الإمكانيات الضرورية لإنجاحها.
لقد أعلنت قبل عدة أسابيع عن أنني قررت التوجه على رأس القيادة الفلسطينية إلى قطاع غزة، لنكون مع أبناء شعبنا الذين أنهكتهم حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية. إنني أناشدكم بدعم قرارنا هذا باستصدار قرار أممي من الأمم المتحدة بهذا الشأن والضغط على حكومة الاحتلال حتى لا تعرقل مسعانا، وإنني أرحب بكل من يرغب منكم في الانضمام إلينا في الذهاب إلى غزة الصامدة الصابرة ليكون شاهداً على الجريمة التي أُرتُكبت بحقها، وليساهم في تحقيق السلام والاستقرار.
تحية إجلالٍ وإكبار لشعبنا البطل الذي يُقدّم كل غالٍ ونفيس من أجل فلسطين، في غزة التضحية، والضفة الصامدة، والقدس درة التاج وعاصمة الدولة، وشعبنا في مخيمات اللجوء والشتات، وإلى أسرانا البواسل في السجون الإسرائيلية، الذين يتعرضون اليوم لانتهاكٍ صارخٍ لكرامتهم الإنسانية.
فلسطين سوف تتحرر، وشعبنا سيواصل حياته في أرض آبائه وأجداده كما فعل لأكثر من ستة آلاف سنة، وسيواصل كفاحه المشروع من أجل الاستقلال، والاحتلال حتماً إلى زوال”.