هل نجحت الأحزاب الأردنية في ترجمة رؤية الملك في التحديث السياسي المأمول ؟
كتبت – نور الدويري
لاشك ان الدولة الأردنية نجحت في قلب الساعة الرميلة في مرحلة التحديث السياسي الجديدة وذلك بتقبل عقل الدولة العميقة في الأردن ترك المشهد الديمقراطي ان يوَلدَ نفسه بنفسه لتأتي النتائج صادمة للجميع وتتعرى شجرة العمل الحزبي بالكامل أمام الملك والشعب تماما وتبدو جاهزة لبدء التقييم والتقليم التي تحتاجها المرحلة الثانية من عهد الملك عبدالله الثاني فبعد مرحلة المنعة والإزدهار خلال الـــــ 25 عاما الماضية، يبدء الأردن المرحلة الثانية في عهد الملك عبدالله الثاني وهي مرحلة البناء والتحديث في ظل تحديات سياسية خارجية غير مسبوقة تكاد ان تراهن على شكل المنطقة خلال أقل من 5 سنوات على أبعد تقدير، وفي ظل قياس اثر التنوع للأنساق الإجتماعية في الأردن والتي تعتبر الأعقد بين الأنسجة الإجتماعية في الشرق الاوسط نتيجة التنوع الإقليمي والقوة العشائرية، ومع ذلك تمكنت الدولة من إدارة المزاج الأردني المعقد والحفاظ على أمن وإستقرار الأردن بعد ان مارس الملك عبدالله الثاني نظرية إدارية تبنت مراقبة رد فعل السلوك الإجتماعي ومبادئ الإدارة التي تعنى الشمولية وقدرتها على إدارة الطوارئ الأمر الذي طور الدولة بشكل مختلف نحو المنعة ليوجه الملك اخيرا نحو مرحلة التحديث والإصلاح الشامل بعد أن كتب 7 رسائل نقاشية ورسائل توجيه سامية للحكومات التي لم تتمكن من ترجمتها بشكل كامل وظهر جليا بتوجيه الملك نحو انشاء لجان ملكية تعنى بالتحديث لاسيما التحديث السياسي مطلع عام 2021.
ليطفو اليوم مشهد سريالي في الحياة الحزبية التي يعيشها الأردن بمرحلته الرابعة الذي كان خصبا بالدروس المستفادة والعبر والحكم الكثيرة فالمراقب للوضع العام يعي تماما كيفية سير الأحزاب منذ إقرار اللجنة الملكية للتحديث السياسي برئاسة رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي القوانين الجديدة وتصديق مجلس الأمة عليها والتي تمركزت بشكل أساسي على ان تحافظ على بياناتها الرسمية الأقرب للبيان الحكومي أو الرسمي بالإضافة إلى حفاظها على تأطير أدوار الوجوه التقليدية دون إلتقاط رسالة الملك والدولة التي كانت تحث على ضخ الدماء الجديدة، ثم تكفلت الأحزاب خلال تشكيل قوائمها العامة على المزاج العام للشعب الذي يقترع على ثلاثة أسس ذكرتها في المقال السابق ( العشائرية، الإقليمية، الخدماتية) وهي الأسس التي تعاملت معها جبهة العمل الإسلامي بشكل مختلف تماما والتي يبدو أنها استفادت من خبرتها في العمل الحزبي الذي يمتد لأكثر من 78 عاما في الأردن وصارت الأقرب لفهم عقل الدولة وهذا بحد ذاته سيف ذو حدين، لذا خسرت الأحزاب معركتها الأولى في أول عملية سقي لزرع التحديث السياسي الجديد وذلك لإيمانها ان الدولة ستدعم الأحزاب الأقرب إليها ولن تسمح للإسلامين للإقتراب في تلميح مستمر من الأحزاب ان الدولة ستتلاعب في نتائج الإنتخابات، لكن الدولة حافظت على رباطة جأشها وعقليتها المتوازنة التي عرفت عنها والتي مكنت الأردن ان يتجاوز المخاطر فتركت التطور الديمقراطي يسير بشكل طبيعي تماما رغم يقينها ان العبء الأمني سيرتفع عليها ولكنها فضلت ان تترك للملك ان يقييم الحالة العامة بشكل دقيق، حيث تعرف الدولة العميقة تماما كيف تتحرك بإستراتجياتها في مجلس النواب لتحافظ على أمان الأردن وإستقراره أمام الموج السياسي الخارجي العالي وسيبدو ان مرحلة الكر والفر ستكون عنوان الكثير من المفصليات في مجلس النواب العشرين.
وبالعودة لموضوع المقال فلم تقوى الأحزاب ان تواجه الطوفان الإسلامي بالمطلق ليس فقط لإعتمادها في تشكيلها للقوائم العامة كما ذكرت سابقا إنما لإعتمادها على قياس الرأي العام على السوشال ميديا واستطلاعات الرأي التي لم تمسح الإقاليم الثلاث والتي لو تم متابعتها بشكل دقيق للوحظ المزاج الهجومي الشعبي العام والذي تتمتع به العقلية الشعبية في الأردن منذ عقود نتيجة المحبطات السياسية التي تتعلق بالدرجة الأولى بالقضية الفلسطينية وبالإرتدات الإقتصادية التي عايشتها الدولة نتيجة إحتمالها فواتير ازمات عديدة منذ الحرب العراقية للحرب السورية ثم الحرب اليمنيه وصولا جائحة كورونا وتهديد الإيراني واخيرا حرب غزة إذ كان لابد ان يدركوا حجم الفئة الصامتة في الأردن التي تتجاوز الـــ 80% والتي تعزف عن مشاكتها في الرأي السياسي وتفضل الصمت المطبق علناً وتخرج ما في جعبتها في الإجتماعات الشعبية التي لا مكان للحزبين والسياسين فيها ، كما ان الدرس الثالث كان عدم تشكيل القوائم العامة على الكوتات و/أو على التوزين الاقليمي إذ خلت بعض القوائم بأرقمها المتقدمة من توزيع الإقاليم الثلاث والتكتل الإقليمي والفئات الأخرى وإعتمادها على تذليل قوائمها بما يعرف سياسيا ( القامة الوطنية ) وهو خطأ مارسته أكثر من ثلاثة أحزاب كان من المتوقع ان تحصد مقاعد أكثر على قوائمها العامة، لنعود إلى مفهوم (القامة الوطنية ) المفخخ أصلا ويقع ضحيته معظم المسؤولين والسياسين في الأردن البعيدين عن نمطية الفكر السائد في المجتمع المحلي و/أو الشعبي في الأردن إذ يجزم السياسون والحزبيون في الأردن ان كل من أخذ صفة رسمية كمعالي أو عطوفة أو حتى باشا حتما سيحظى بدعمه العشائري وهذا سلوك إجتماعي تم دفنه في العقلية الشعبية منذ مطلع الربيع العربي بعد قذف الفئة الساحقة في الأردن أصحاب من أطلق عليهم (القامة الوطنية) بعيدا فلم تعد تتجاوز علاقة الشعب بهم سوى صورا يحب الأردنييون إقتنائها والتغني بها كنوع من رؤية المشاهير إذ ان الأردنييون اليوم عطشى لقامات وطنية تتجاوز المفهوم التقليدي لها، ومن يراقب مجلس النواب السابق سيدرك حتما ان بعض النواب حاولوا إستغلال هذا التعطش لقلب المجلس حسب أجنداتهم الخاصة مثل “اسامة العجارمة” وقبله “يحيى السعود” (رحمه الله) والعديد من الأسماء التي حاولت علاج مفهوم القامة الوطنية لكن بشكل خاطئ مجددا إذ لابد ان نفهم ان القامة الوطنية لا علاقة لها بالأرث السياسي و/أو الألقاب الكثيرة انما لها علاقة بالقدرة على توزين الإصلاح بثوابت الدولة في ميزان عقلاني يتخذ من نهج السببية مسلكا لحماية مصالح الوطن العليا.
ان المختلط بالجسد الشعبي للإردنيين يدرك ان الإقبال للإقتراع على قوائم الإسلامين كان لإمتلاكهم الخطاب الشعبي الرنان والثقة العالية بالإصلاح حتى وان مارسوا اخطاء في توزين الإصلاح مقصودة وغير مقصودة إلى أنهم تنبهوا لقيمة هذا الخطاب جيدا، ودفعهم للمرأة والشباب بشكل كبير وهو ما عزفت عنه معظم الأحزاب لتنصدم أمام هذا الطوفان الإسلامي، كما ان عدم قيام المرشحين بواجبهم الكامل إتجاه الأحزاب والعكس وهو أمر بات واضحا في كل القوائم العامة ومسموع روايتها في معظم الأحزاب وهذا لم ينطبق فقط على القوائم العامة إنما على القوائم المحلية التي مثلت هذه الأحزاب فهنالك نسب صادمة لحصاد عدد من نواب المحلية في عدد من المحافظات أكثر من حصاد إحزابهم في نفس المحافظة مما يعني ان المرشح ركز على نفسه ولم يدعو منتخبيه لتصويت لقائمة حزبه العامة وهذا يؤكد ان العقبات في توحيد الصفوف الداخلية في الأحزاب تحتاج لمزيد من الهندسة والترتيب وقد نشهد إستقالات لنوابا حزبين على القوائم المحلية من أحزابهم.
كما يمكن ان نسجل ملاحظة إضافية هي ان بعض الأحزاب مكنت عددا من الجدلين للوصول إلى قوائمها المحلية فُقذفت تماما خارج العتبة وبإصرار شعبي جديد حيث لا يبدو ان هذه الأحزاب تدرك العقلية الأردنية الشعبية التي ترفض المفاهيم التي قد تنال من أمنها النفسي إتجاه العقيدة رغم ان الأردن يعيش الحداثة بالكامل فالتعددية لم تنطبق بالأردن على السياسية فقط بل على الإجتماعية والإقتصادية والفكرية وانصهرت في سلة الدولة التي ساهمت في تحقيق الإنسجام بينهم وان طالته بعض المواقف هنا أوهناك والتي بقيت كلها تحت سيطرة الدولة واجهزتها .
يبدو واضحا اليوم ان الأحزاب لم تتوقع هذه النتائج الساحقة ولا حتى الإسلاميين أنفسهم ولكنها حتما كانت متوقعة لدى الدولة والتي يبدو أنها جاهزة لتعامل معها وتدرك الدولة أولويات المرحلة ووضوح الاحتياجات اللازمة التي تحتاج استمرار في اقتسام هيكل الدولة العميقة لذخيرة المطبخ العميق في الدولة من العصف الذهني لإدارة الأردن تحت نظر الملك بشكل أقوى وأفضل .
أخيرا يجب ان تدرك الأحزاب ضرورة عدم إلتصاقها بالخطاب الرسمي وان تقترب من الخطاب الشعبي مع إدراك معايير دوزنته جيدا فلم يعد العمل السياسي في الأردن يقوم على الشخوص ولا على التكتلات الإقتصادية أو الأرث السياسي وهذا ما أردت الدولة ان ترسله بشكل مباشر للجميع من خلال النتائج الشفافة التي أعادت للأردنيين الثقة بالدولة بشكل كامل، بعد عدم تفضيلها لأحد وترك الخيار للشعب بالكامل ، كما ان على الأحزاب ان تعيد صياغة القامة الوطنية وتجذب الشباب والمرأة الممكنين حقيقة سياسيا والذين يمكنهم ان يقدموا خطابا رنانا ولكنه (حافظا لدرسه) ومن المتوقع تماما بإنه لن تنجو الكثير من الأحزاب والتي من المتوقع ان تعاني من إرتفاع أمواج التعكير في هياكلها الداخلية وهذا يلزم إعادتها للنظر بمجمل مشهدها حتى تستطيع النجاة في مبارزة المكاسرة السياسية التي ستحصل أمام مرأى الجميع خلال الــ 4 سنوات القادمة، وهذا أمر لا يجب ان يحبط الأحزاب بالمطلق فبالمقابل تمكنت الأحزاب الجديدة زمنيا تحديدا من حجز مقاعد أمامية لها في المجلس رغم الفورقات الهائلة مع الإسلامين في حصاد الأصوات لكنها حتما ستكون الأقراب لنجاة إذا تمكنت فعلا من إدارة امورها الداخلية.
واليوم يقع جس النبض الشعبي الأكبر للأحزاب على قوة برامج الأحزاب والتي يجب ان تكون شمولية وواضحة وقابلة للقياس وعلى الأحزاب ان تضع الميكروفانات أمام الدماء الجديدة وتخلطها بالدماء القديمة لتستفيد الأولى من خبرة الثانية وتستفيد الثانية من لغة الشارع الحقيقي.