حَــكَــايـــا فِـــنــجـــان قَـــهــوَتـــي (12)

نَــظَــرِيَّــة طــائِـــر الـــوَروار

بِقَلَم : د.محمد يوسف أبو عمارة

ما أَجمَل نَسمات الصَّبَاح البارِدة وكم أن  برودتها لَذيذة ، وكَم كنتُأَشتَهي هذه اللَّسعات المنعشة النَّاعِمَة الصَّباحِيَّة مِن البَرد عِندَماأُسافِر لإِحدى دُوَل الخَليج العَربي أَو إِحدى الدُّوَل الاستِوائِيَّة حَيثُلا تَشعُر بالبُرودَة إِلّا وأَنتَ تَجلِسُ أَسفَل أَو مُقابِل المُكِيِّف مُباشَرَة .. لَذَّة غَريبَة شَعَرتُ بِها ، استَنشَقتُ الهَواء مِن عَلى شُرفَةِ مَنزِليوشَعَرتُ بِأَنَّ الهَواء اليَوم مُختَلِف يَبدو أَنّ نِسبَة السَّعادة فيه أَكبَر مِنالأَيام الماضِيَة ، آه لَو أَستَطيع أَن أُذيب في الماء الذي يَشرَب مِنهُأَحِبَّتي دَواء يَزيد نِسبَة هِرمون السَّعادَة أَو يُقَلِّل هِرمون الحُزنوالكآبَة ، فأَنا مُتَأَكِّد مِن أَنَّ أَشياء كَثيرَة سَتَتَغَيَّر في حَياتيشَخصِيًّا وفي حَياة كُلّ مَن يُحيط بي ..

 

رَكِبتُ سَيَّارَتي مُتَوَجِّهاً إِلى عَمَلي وأَنا عَلى قَناعَة بِأَنّ الأُكسِجينالذي استَنشَقته اليَوم مُمتَلِئ بِهِرمون السَّعادَة والحُبّ والشَّغَف ،أَدَرتُ السَّيارَة وكُنتُ أَنتَظِر أَن أَسمَع صَوتَ سَيّدتي فَيروز التّي لَمتَبخَل عَليّ وبَدأت تَشدو..

دَخْلَكْ يا طير الوروار ..

رِحْلَك من صَوبُن مشوار ..

وسلّملي عالحبايب ..

وخبِّرني بْحالُن شو صار ..

آه يا فَيروز كَم هُناك مِن الأَحِبَّة والأَقارِب والأَصدِقاء الذينَ أَتَمَنّى أَنأَسمَع أَخبارهم وما حَلَّ بِهم ، فمُنذُ سَنَوات طِوال لَم أَرى العَديد مِنأَصدِقائي القُدامى .. فالعَمل يَسلِبُ جُلَّ الوَقت ويَقتُل التَّواصُلالاجتِماعي رُغمَ سهولَتِه في هذه الأَيّام ، آه لَو استَطَعتُ أَن أرسِلطَيرَ الوروار  ليسَلِّم لي عَلى الحَبايب الذين فَقَدتُ أَرقامهم وعَناوينَهُمولا وَسيلَة لَديّ للتَواصُل مَعهُم فَلا أَدري في أَيّ بُقعَة مِن بِقاعالأَرض هُم موجودون .. وهَل هُم موجودين فَوقَ الأَرضِ أَم تَحتَها !

وَصَلتُ مَكتَبي وحَنينٌ للماضي وأَشخاصه يَشدّني بِعنف وسارَعتُلإِعادَة وَضع أُغنية دِخلَك يا طَير الوروار وإِذ بِصَديقي المُلهِم فِنجانالقَهوَة يأتي مُرَّحِبًا ويَقول لي هيا لنَستَرجِع مَعاً ما فاتَنا مِن ذِكرَياتوأَيّاماً جَميلَة هَيّا أَيّها الجَميل اطلق لمداءك المَجال ليبدع كَلِماتوأَلحان ..

رَشَفتُ الرَّشفَة الأُولى مِن الفِنجان .. وتأَمَّلتُ سَطحَ القَهوة الذيتَشَقَّق وتَقَطَّع وعادَ لِيَكتَمِل مَشَكِّلاً أَشبَه ما يَكون بالغِيوم ، ولكنّ لِماذاالغيوم ؟!

رُبَّما أَنّ المَقصود هُوَ أَنّ الخَير قادِم فَوجود الغَيم دَلالَة على اقتِرابالأَمطار ومُؤشّر للخَير والمَطَر ولكنّ هُنا بِما أنني أؤمن بأنَّ النّسبيَّةتَحكُم كُلّ شَيء .. فَحتّى المَطَر هُناك مَن يُحِبّه وهُناك مَن يَكرهُهفالمُزارِع يُحِبّ المَطَر بَينَما جارتنا أُم العَبد تَكره الشّتاء والمَطَر لأَنّغَسيلها لا يجفّ !

وهُناكَ العَديد مِن أَصحاب المِهَن الذين يَعتَمِد عملهم عَلى الأَيّام غَيرالمُمطِرة يَكرَهون مَوسِم الأَمطار ! والفقير الذي لا يجد ما يقيهالأمطار يكرهه أيضا ً.

لذا فلا  تَطلُب أَن يُحبّك جَميع النّاس ولا أَن يُعجَب بِتَصَرُّفك الجَميعلأَنّ البَشَر لا يَجتَمِعون عَلى شَيء فَمِن الطَّبيعي وأَنتَ في قِمَّةإِبداعِك أَن تَجِد مَن يُحاوِل الاستِخفاف مِن جهدك أَو التَّقليل مِنه. ولاتَعتَقِد أَنَّك مَهما فَعَلت فَسَوفَ تَلقى الإِعجاب مِن الجَميع فَهُناك حَتماًمَن سَينتَقِد أَي شيء فيك فَلَو تَبَرَّعت للِفُقراء

لَقالَ أَحَدُهُم : رِياء ، ولَو لَم تَتَبَرّع لَقال آخر : بَخيل ، إِذاً ماذا تَفعَل ؟إِفعَل الصَّواب مِن وِجهَة نَظرِك وَضميرك وقَلبِك ولا تَلتَفِت للآراءالسَّلبيَّة بَل ارتفِع عَنها وعَن أَصحابِها ولا تَجعلها تُؤثّر بِك مُطلَقاً ..

وأَرخَيتُ سَمَعي لِفَيروز ..

وخبِّرني بْحالُن شو صار ..

عَ تلال الشمس المنسية ..

على ورق الدلب الأصفر ..

نطير ونعلا شوية شوية ..

وتصير الدنيا تصغر ..

وبكروم التين .. يندَه تشرين ..

يا حبيبي ..

نطير ونعلا شوية شوية .. وتصير الدنيا تصغر ..

يا سَلام هذا ما قَصدته قَبل قَليل بأَنّ نَرتَفِع ونترفع عَن الآراء المُثبطةوالسَّلبِيَّة لنراها تصغُرُ شَيئاً فشَيئاً إِلى أَن تصبح مَعدومَة الرُّؤياوعَديمَة التَّأثير .. إِذاً هيا نطير ونعلا مع طائر الوروار ..

هذا الطّائِر العَجيب الذي اعتادَ السَّفَر واعتادَ البَحث عَن سَعادَتِهفَتَجِدُه طائِراً زاهي الأَلوان فاتِن الشّكل رَشيقَ الطَّيران مَعروف عَنهأَن يستَمتِع بِأَكل النَّحل والحَشَرات ويعتبر هذا الكائن اللّطيف أَكبَرعَدوّ لَلحشرات وللنحالين ويُسافِر طيلة عمره فيسافر لِمُدَّة سِتَّة شُهورمِن أُوروبا لإِفريقيا مُروراً بِبِلادِ الشّام ، فَتَبدَأ رِحلَتَهُ مِن شَهر نيسانوتَنتَهي في شهر تشرين .. لِتَبدأ رِحلَة العَودَة وبالعَكس مِن تِشرينوحَتّى نيسان مُتَنَقّلاً بَينَ البِلدان مُتَرَفِّعًا عَن صَغائِر الأُمور يَطيرُمُقتَرِباً مِنَ الشَّمس المَنسِيَّة حَيثُ العَناوين المَفقودة والأَشخاصالذين تَفتَقِدهم في كُلّ لَحظَة ..

 

رَشَفتُ رشفة أُخرى .. وكَرَّرتُ مَقطَع .. بكروم التين ينده تشرين ..

ويكأَنَّ شَهرُ تشرين يُنادي طائِر الوروار ويغريه بِبَقايا التّين النّاضِجوالمَوجود عَلى الأَشجار والتي لم يستع المزارعون جنيها لذا فهُوَيغريه لِيُزوره لكي يسمع مِنهُ الأَخبار .. أَخبار الحَبايِب كَيفَ لا وهُوَالمُسافِر طيلَة الوَقت المُتَنَقّل بَينَ البِلدان والمُطَّلِع عَلى أَخبار الأَحِبَّة .. إِذاً فَطير الوَروار صاحِب نَظَرِيَّة تُحتَرَم في هذه الحَياة ..

 

وتأَمَّلتُ سَطحَ الفِنجان الذي شَعَرتُ بِأَنّه شكّل الرّسومات مُتداخِلَةدَوائِر مُتَداخِلَة أو أَشكالاًو مُختَلِفَة مُتَكَرِّرَة يَحوي كُبيرُها صَغيرها ولاأَدري لِماذا شَعرتُ بِأَنَّ فِنجاني يُؤكِّد عَلى نَفس الفِكرَة وهِيَ أَنّالكَبير يَستَوعِب الصَّغير ، فالعَقل الكَبير لَديهِ القُدرَة عَلى استيعابالعَقل الصَّغير ولَديه القُدرة عَلى التَّسامُح والقَفز عَن أَخطاء الآخر ،فَكُلَّما زادَ وعيك زاد حُلمك فالحَليم هُوَ صاحِب العَقل الكَبير والحاقِدالذي لا يَستَطيع المًسامَحَة ، والحَزين الذي لا يَستَطيع تَجاوُز الأَلَم ،والمُخفِق الذي لا يَستَطيع تَجاوُز الفَشَل ما هُم إِلّا دَوائِر صَغيرَةستَستَمِر بالصغر إِلى أَن تَقضي عَلى نَفسِها فالحاقِد يَقتُله حِقدُه .. والبَخيل يَقتُلهُ بُخلُه .. والفاشِل كذلك ، وهؤلاء يموتون كل يوم فالحاقديموت غيرة وحسداً كل يوم وهكذا جميع أصحاب العقول الصغيرة . والعجيب أن هؤلاء هُم الأَعلى صَوتاً وضَجيجاً وإزعاجاً ولكنّهضَجيج دونَ مُحَصِّلَة ودونَ جَدوَى لَيسَ إِلّا إِزعاج .. كصوت آلة باليةتزعج دون أن تدور أو تعمل ،لِذا حاوِل أَن تَكون أَنتَ الأَوسَع صَدراًوالأَكثَر تَسامُحاً وعطاءً ، ولا تَجعَل مِن أَخطاءِ الآخرين ذِريعَة لَكلِتُخطِئ مَعهُم أَو لتستبدّ في مُعاقَبتهم إن كنت قادراً على ذلك،بَلكُلَّما استَطَعت الإِرتِقاء عن هذه الأمور ستكون أَنتَ ذلك الشَّخصالذي يَتَمَنّى الجَميع العَمل والتّعامُل مَعه أَو الاقتِراب مِنه ..

رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى مِن الفِنجان .. لِأَرى سَطحَه قَد اختَفى تَماماً إِلّامِن بعضِ الأَطراف ولِأَرى أَشبَه ما يَكون بالغابَة مِن الأَشجار قَدارتَسَمَت على جدران الفِنجان ، والغابة رُبَّما مُؤَشِّر عَلى الظُّلموبِنَفسِ الوَقت عَلى الجَمال ، فَجمال الطَّبيعَة والأَشجار والزُّهوريُخفي تَحتَه عالَم مِن الظُّلم .. حَيثُ يَبتَلِع القَويّ الضَّعيف ففي الغابَةلا مَكان للضَعيف فالحيوانات تَعيش في الغابَة وهِيَ تُصارِع صِراعَالبَقاء ، يأكل كبيرها صغارها وتأكل صغارها كبيرها عندما يهرم .

كَما نَحنُ الآن في حَياتِنا تَرانا نُصارِعُ في العَمَل ونُصارِعُ فيالمَنزِل وفي السُّوق وفي الشّارِع وحَتّى أنّ الصِّراع يتسلل إِلىأَحلامِنا عِندَ مُحاوَلَتِنا النوم للبَحث عَن الهُدوء والرّاحة .

ولكنّ ما العَمَل أَمامَ هذه الصِّراعات التي نَضطر عَلى خَوضِها يَومِيًّاهَل نُسلّم الرّايَة ونَنسَحِب أَم ماذا نَفعَل؟!

رَشَفتُ رَشفَةً أَخيرَة مِن الفِنجان .. الذي شَعَرتُ بِأَنَّه يَوَدّ أَن يَقولَ لي: غَيّر وِجهَة نَظَرِك للأَشياء والآخرين حَتّى يُغَيّروا هُم نَظرَتَهُم لَك فَلاتُعامِل الآخر كَمُنافِس أَو كَعَدَو وصَدّقني سَيَتَحَوَّل هُوَ تِلقائِيًّا إِلىغَيرِ ذلك وإِن أَرَدتُ أَن تُنافِس فاختَر خَصمَك بِعِنايَة كَما تَختارصَديقك وحَلِّق كَطائِر الوَروار ..

واجعَل عَقلَك دَليلك ، وقَلبك مُرشدك وتَذَكّر أَنّك أَنتَ الذي وضع اللهفيهِ العَقل الكَبير والذي عليهِ استيعاب أَصحاب العُقول الصَّغيرةوهُنا فَقَط لَن تَشعُر بالإِهانَة أَو الحِقد أَو الكُره وإِنَّما سَتَحَلِّق فيسَمائِكَ عاليًا لِأَنّ كُلّ التَّفاصيل سَتَصغُر كَما في الدُّنيا في عَينَيككُلَّما ارتَفَعتَ وارتَقَيت

نَظَرتُ نَحوَ صَديقي فِنجاني وأَكمَلتُ الدَّندَنَة

عَ تلال الشمس المنسية ..

على ورق الدلب الأصفر..

نطير ونعلا شوية شوية ..

وتصير الدنيا تصفر ..

إقرأ الخبر السابق

ظاهرة غريبة.. حرائق متكررة بمنزل في مصر والمالك: كابوس لا ينتهي

اقرأ الخبر التالي

مطالبات بتولي صاحب بنك الفقراء زمام السلطة في بنغلاديش

الأكثر شهرة