بِقَلَم : د.محمد يوسف أبو عمارة
أُؤمِنُ كَثيراً بأَنّ نَظرَتك للأَشياء هِيَ ما تُحَدّد مَدى استِمتاعِك بِهَا مِن عَدَمِه فإِن أَقبَلت عَلى أَي شَيء بِمَشاعِر إِيجابِيَّة لا بُدَّ وأَنّك سَتَجِد المُتعَة والقُبول وأَمّا إذا ما أَقبلَت عَليها بِمَشاعِر سَلبِيَّة فإِنَّ مُتعَة الرّحلَة سَتَزول والتَّوَقُّع السَّلبي سَيَطغَى عَلى كُلّ الأَحداث وبَدَلاً مِن أَن تَبحَث عَن مواطن الجَمال في كُلّ ما تَرى لَن يَسقُط نَظَرُك إلَّا عَلى نَواحي النَّقص والعُيوب ..
وأَنا ومُنذُ زَمَن طَويل أَخَذتُ قَراراً بِأَن تَكون نَظرَتي إيجابِيَّة لِكُلّ الأَحداث والأَشياء والأَشخاص وقررت أن أخوض تَجرُبَتي الخاصَّة ، وبالفِعل بَدَأَ الصّراع النَّفسي الدَّاخلي لَدَيّ في تَغيّر وتَبديل مَفاهيم زُرِعَت بِي مِن عَشَراتٍ السّنين وكَذلك بِتَبديل أَفكار الأَشخاص المُحيطين بي لِأَنّ لَهُم الأَثَر الأَكبَر في تَحديد نَظرَتي للأَشياء ، فَلو راجع أَيّ مِنّا القَرارات التي يَتَّخِذُها يَومِيًّا، أَنا مُتَأَكّد بأَنّ نِسبَة كَبيرة مِنها سَتَكون انعِكاساً لآراءِ المُحيطين بِه ، لِذا فالتَّغَيُّر يَبدَأ مِن الشَّخص بِنَفسِه ومِن ثُمَّ بتَغَيُّر الدَّوائر التي تُحيطُ بِه …
رَكِبتُ سَيّارَتي وَأَنا أهمّ بالذّهاب إلى العَمَل كالمعتاد وإِذ بِأَحد الجيران يَستَوقِفني : دُكتور لَو سَمَحت سَيّارتي تَعَطَّلت هَل بالإمكان أَن تَصطَحِبني بِطَريقِك – طَبعاً عَلى الرُّحبِ والسِّعَة – وبالفِعل رَكِبَ جاري السَّيّارة وشَكَرَني لِمُبادَرَتي وبِمُجَرَّد رُكوبِه .
– يا رَجُل الطّريق أزمة كثير ومنطقتنا بالذّات الأَزمة فيها ما بتِنتَهي والله بِدَّك ساعتين لَحتّى توصَل أَي مِشوار يَعني بَتوَقّع إنّه مِن الأكيد رَح نِتأَخّر أَنا ويّاك ، مُستَحيل نوصل على المَوعِد .
– نَظَرتُ إِليهِ ، وقُلت : صَباح الخير جَار ، أَنا كُل يوم بَطلَع بنَفس التوقيت وحَسَبت وَقتي بِحَيث إنّي مَع الأَزمة ما أتأَخّر والأَزمة مِش قاتِلة مَقبولة والحمدلله ، إنتَ لَو تزور دُوَل ثانية وتشوف كيف الأزمة اللّي فعلاً بتِستَنزِف وَقتَك وصِحتَك لَكُنت حَسّيت إِنّه هاي مِش أَزمة بالمَّرّة ..
وأَنا بالطَّريق عادَة مبرمج الوَقت ، بَسمَع فَيروز غالِباً أَو أَخبار أَو فُرصة أُحاوِر أَطفالي إِذا كانوا مَعي فبالتالي صِدقاً ما بَحِس بالأَزمة إِطلاقاً ..
– يا رَجُل نيالَك .. والله أنا بتِطلَع روحي وبتقاتَل مَع نُص النّاس اللي بالشارع قَبل ما أَوصل الدَّوام
وسرنا معنا ، رفعتُ صَوتَ المِذياع ..
وإِذ بفَيروز تُدَندِن ..
موعود بعيونِك أنا موعود …
وشو قطعت كرمالُن ضَيَع وجرود …
إنتِ عيونِك سود .. ومَنّك عارفة …
شو بيعملوا فيّي العيون السّود …
– ويقاطع جاري فيروز ، بتِعرَف أَنا أَكثَر شي بَكرَهه العيون السودا ..
– جار لَو سَمَحِت .. ما تقاطِع فَيروز لَمّا تغنّي ..
– بس العيون الزَّرقا ، الخَضرا ، أحلى .. السّودا .. السّودا .. حَد بيحب العيون السّود !!
– جار إنتَ لِسّة ما وصلت ، يا بتُسكت يا بتِنزَل لَو سَمَحت ..
– لا وعلى إيش بَسكت ..
وَصِلتُ مَكتَبي بَعدَ عَناء طَويل مع جاري -المِش مُتفائل -وانتَظرتُ بِلَهفَة المشتاق لِفنجان قَهوَتي .. الذي أَتاني مُسرِعاً يَقول .. أَهلاً بِكَ يا صَديقي يا مَن تُحَوّل حَبّات قَهوَتي إِلى كَلِمات وأَلحان .. الآن أَشرَق صَباحي ..
أَمسكتُ فِنجاني ونَظَرتُ إِليه وكانَ وَجهَهُ مُكتَمِلٌ كالبَدر …
رَشَفتُ الرَّشفَة الأُولى .. وتأَمَّلتُ تِلكَ اللَّوحة التي بَدَأَت بالتَّشَكُّل .. أَمعَنتُ النَّظَر وَ إِذ بِها أَشكال أَقرَب ما تَكون لِشَكلِ الطّيور ويكَاَنّها سرب مهاجر لَم تَلبث أَن اختَفَت ، وشَعَرتُ بأَنّ الفِنجان يُريد أَن يُخبِرني بِأَنّ الأَشخاص أَنواع مُعظَمهم كالطَّير الذي لا يَلبَث أَن يَترُكك ويُغادِر إلى مَكان آخر .. لِذا لا تَكُن كَثير التَّعَلّق أَو التّأَثُّر عامِل الآخرين باتّزان لأَنّكَ أَنتَ كذلك في نَظَر أَحَدِهِم طَير مُهاجِر لا يَلبَثُ أَن يُغادِر ، فَلا تَسمَح لِشَخص مؤقّت في نهارك أَو حياتك أَن يُغيّر مَزاجك أَو أَن يُغيّر أَفكارك الأَصيلة بَل عامِله عَلى أَنّه مَحَطّة وقوف مُؤقّتة قَد تَستَفيد مِنها والغالِب أنّنا سنَنساها عِندَ وصولنا للمَحَطّة الجَديدة .. وأكرر ولا تتعمق بأحد!
رَشَفتُ رَشفةً أُخرى .. وأَمعنتُ النَّظر بالشّكل الذي بَدا واضِحاً أَنَّه يَشبه العَين ! لا أَدري هَل تَأَثَّر فِنجاني أَيضاً ( بِعُيونِ عَليا ) .. أَم أَنّ هُناك رِسالة أُخرى يُريد إيصالها لي .. رُبَّما ذَهَبتُ بِتَفكيري إلى أولئكَ الأَشخاص الذين يَعتَقِدونَ أَنّ الحَسَد والعَين هُوَ المُعيق الوَحيد لِنَجاحاتِهِم ، فإِذا ما حَصَل مَعهُم أَيّ شَيء فَهُم يعزونَه للحَسَد والعَين فَقَط مَع أَنّهم بالأصل لَم يَفعَلوا أَيّ شيء يَستَحِقُّ الحَسَد !
أَو رُبَّما أَنّه ذهب إلى أَن العيون تَتَكَلّم بِصَمت فإِن أَرَدّت مًعرِفَة الآخر فَتَمَعّن في عُيونه التي غالِباً ما لا تَكذب … فالحُبّ يُقرَأ مِن نَظَراتِ العُيون وكذلكَ الكُره وكذلكَ الخَوف وكذلكَ المَرَض .. فإن كُنتَ قارئ جَيّد للعُيون فَسَيَكون الشّخص المُقابِل لَك كالكِتاب المَفتوح ..
رَشَفتُ رَشفةً أُخرى .. وإِذ بالسّطح يَتَفتَّت ويَتَناثَر ويُشَكّل شَيئاً أَشبَه بالطّيور الكَثيرة والتي بَدَأَت تَتَوَزَّع وتَتَجَمَّع عَلى أَطراف الفِنجان لِتَندَمِج مَعاً وتَكون أَشبَه ما يَكون بالجِدار الذي يُحيط بالفِنجان …
لا أَدري لِماذا كَرَّر الطُّيور .. رُبَّما ذَهَب بِرسالته إلى أَنّ الأَفكار المُتناثِرة تَكون كالطّيور المُهاجِرة التي إذا ما اجتَمَعَت مَعاً تُصبِح فِكراً ثابتاً مَنيعاً كالجِدار ..
ورُبَّما كذلكَ الأَشخاص الذين يَتَشابَهون في الصّفات والاهتمامات فإِنّ تَجَمُّعَهُم مَعاً يُقَوّي كُلّ فَرد مِنهُم بَل ويُثَبت الفِكرة لِتُصبِح كالجِدار المَنيع الصَّعب الاختراق .. لِذا فإذا ما وَجَدَ أَيّ مِنّا شَخص يَشبهه بالصّفات والاهتمامات والمُيول والجُنون ، عَليه أَن لا يَتَخَلّى عَنه أَبداً بَل عَليهِ أَن يَتَقَمّصه بَل ويَتَقَمّص كُل مِنهُما الآخر .. ليُصبِحان شَخصاً واحداً في جَسَدَين وهذا لا يَنطَبِق عَلى العُشّاق فَقَط بَل أَصحاب الأفكار الواحِدة .. فإِن استطعتَ تَجميع فَريق عَمَل مُتَجانِس مُتشابِه الأَفكار فَعَليكُم جَميعاً تَقَمُّص شَخصيّة هي الأَقرَب للجَميع فَتَكون رُدودُ فِعل أَو إِجابَة أَي عُضو مِن أَعضاء الفَريق واحِدة بِدون اختِلاف في الأَفكار أَو الطّروحات وكذلك أَفراد الأُسرة الواحِدَة .. والوَطَن الواحِد .. والقَضِيَّة الواحِدَة ..
وأَقصُدُ بالتَّقمّص هُنا هُوَ أَن تَدخُل في داخِل الآخر أَو يُدخِلُكَ هُوَ كأَنّك تَرتَديه بِكُلّ تفاصيلِه فالمُعَلّم المُبدِع هُوَ مَن يَتَقَمَّص مِهنَتَه التَّعليم فَتَجِدُه مُعَلّماً أَينَما حَلّ أَو ارتَحل في رُدودِ فِعلِه وإجاباتِه وتَصَرُّفاتِه .
والموسيقي المُبدِع هُوَ مَن يَتَقَمَّص اللّحن فَيعيش ويكأَنّه وَتَر مِن أَوتار العود أَو كَنَغمَة مِن النّغمات التي تَصدُر عَن البيانو .. أَو آه مَوجوعَة يُطلِقُها ناي يتأَلَّم مِن وقع كَلمات أُغنية حَزينة ..
وتَقَمُّص السَّعادة هُوَ أَن تَجعَل نَفسكَ والسّعادة شَيئاً واحِداً فَتكون سَعيداً لِكُلّ ما تَرى أَو تُشاهِد لأَنّ السَّعادَة قَرار وتَقَمُّصَك للسعادة يَعني أَنَّك قرَّرتَ أَن تَكون سَعيداً في هذا اليَوم فَتَرتَدي ثَوبَ السَّعادة وكذلكَ الجَمال وكذلكَ تَوَقُّع الأَفضَل في كُلّ التّجارُب فإن حَصَل تكون النبوءة قد تحققت وبِعَكسِ ذلكَ تُحاوِل مَرّة أُخرى وأُخرى وأُخرى إلى أَن تَتَحَقّق ..
رَشَفتُ آخر رَشفَة في الفِنجان بَعدَ أَن ذَهبتُ للمِذياع وأَخترتُ أُغنية فَيروز ..
موعود بعيونِك أنا موعود …
وشو قطعت كرمالُن ضَيَع وجرود …
نَظرتُ نَحوَ فِنجاني وَقُلت .. بتِعرَف إنّه العيون السّود حِلوة .. ويا سَلام إذا كانَت عيون عَليا …
شَعَرتُ أَنَّ فِنجاني يَقول لي وهُوَ يَغمِزُ غَمزَة ( سَميرَة تَوفيق ) .. مين عَليا ؟
ضَحِكتُ وصَوتُ فَيروز يَملَأُ المَكان
تذكّرتك يا عليا …
وتذكّرت عيونك …
ويخرب بيت عيونك يا عليا .. شو حلوين