منذ بدايات تجويع شمال غزة، مروراً بتجويع جنوبه ووسطه وإن كان بحدة أقل، ظهرت أجساد آلاف الغزيين، خاصة الأطفال عبارة عن هياكل عظمية، على مرأى من دول عظمى تعتبر نفسها ديمقراطية، تدعم الاحتلال بالسلاح والدبلوماسية في المنابر العالمية، ومؤسسات دولية وخيرية أوقف الاحتلال تحركاتها وضيقها على قطاع ضيق في الأساس.
أصبحت الناس “تستشهد” بسبب الجوع، حيث استشهد عدد كبير من المواطنين، خاصة الأطفال بسبب نقص الغداء، وصعوبة توفره بسبب إجراءات الاحتلال الذي يدمر كل شيء في القطاع.
التجويع الإسرائيلي المتعمد شمال غزة، حرب أخرى لا تقل ضراوة وشدة عن الصواريخ وطلقات “الكواد كابتر” والقناصة وقذائف المدفعية والزوارق البحرية، حرب لا يقل فيها إنهاك الأجساد عن قصفها وحرقها وتعذيبها.
بشكل يومي، تخرج فيديوهات وصور ومناشدات واستغاثات عاجلة لإنقاذ الصامدين في شمال غزة، الذين أصروا على عدم النزوح إلى الجنوب والوسط، حيث وادي غزة، وحيث المجازر يومية، وكذب العدو بأن الجنوب والوسط “مناطق آمنة”، فيما خيام النازحين ومراكز الإيواء، خاصة المدارس، أهداف أطنان من المتفجرات التي تلقى بشكل يومي على القطاع، مستهدفة بشكلٍ رئيسي الأطفال والنساء، والذين استشهد منهم منذ بداية حرب الإبادة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، 16 ألف طفل ونحو 11 ألف من النساء من أصل 39 ألف شهيد، فيما بلغ عدد الجرحى نحو 89 ألف جريح 70% منهم من النساء والأطفال.
كما أن الجوع لم يكن فقط جوع الأجساد، بل ضم إليه رعب القصف والنزوح والإنهاك الجسدي الذي عاناه أهالي غزة بشكل عام وأهل شمال غزة بشكل خاص، ففي الأسابيع الأخيرة، ارتفعت وتيرة مذابح الاحتلال في عدة أحياء من مدينة غزة وشمالها، كأحياء الشجاعية وتل الهوا وشارع الصناعة، فاستشهد المئات من أبناء شعبنا قصفا وقنصا وتعذيبا وتجويعا، وحتى نهشاً بالكلاب المسعورة لاحتلال مسعور، كما حدث مع الطفل محمد صلاح بهار الذي يعاني من متلازمة داون.
وبحسب جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، فإنه حتى نهاية حزيران، بلغ عدد الشهداء نتيجة المجاعة 34، ووجود نحو 3.500 طفل معرضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء.
في آخر تقييمات برنامج الأغذية العالمي، الصادر في 25 حزيران الماضي، رسم التقييم التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي الخاص بغزة صورة قاتمة للجوع المستمر هناك، حيث وجد التقييم أن 96% من السكان يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد عند مستوى الأزمة أو أعلى (الفئة الثالثة أو أعلى من التصنيف)، ومن ضمن هؤلاء ما يقرب من نصف مليون شخص يعيشون في ظروف كارثية (الفئة الخامسة من التصنيف).
لم تتوقف طوابير الماء والخبز منذ الأيام الأولى للحرب، شربت الناس مياه المطر التي انسابت من أسقف الخيام، ومياه البحر مباشرة، بلوثتها وملوحتها، وأكلت الحشائش والأعشاب، في محاولات النجاة من الموت جوعاً.
وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أشارت في أحدث تقاريرها إلى أن ما لا يقل عن 70% من سكان قطاع غزة معرضون لخطر المجاعة، مما يعني أن سكان قطاع غزة يعانون من جوع كارثي، وهذا يشير إلى أن قطاع غزة يعتبر الآن من أكثر المناطق مجاعة في العالم.
كما أشارت البيانات إلى أن 90% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 6 إلى 23 شهرا والنساء الحوامل يواجهون نقصا حادا في المواد الغذائية، كما يعاني قطاع غزة من أزمة حادة في الحصول على المياه، حيث إنه وفي ظل الظروف الطبيعية في فترة ما قبل السابع من تشرين الأول، كان معدل استهلاك الفرد من المياه في القطاع خلال عام 2022 يقدر بنحو 84.6 لتر/فرد/يوم، ومع اندلاع عدوان الاحتلال الاسرائيلي، أشارت التقديرات إلى أن سكان القطاع يستطيعون الوصول الى ما بين 3-15 لترا/فرد/يوم فقط.
يضاف إلى كارثة الجوع والمذابح والكوارث الصحية وتدمير المستشفيات والمراكز الصحية والنقاط الطبية وخراب البنية التحتية، يواجه 10 آلاف مريض سرطان خطر الموت وبحاجة للعلاج و3 آلاف مريض مصابون بأمراض مختلفة بحاجة للعلاج بالخارج، كما تفشت الأمراض المعدية بين النازحين وأصيب بها 1,660,942، أصيب منهم 71,338 نازحا بعدوى التهابات الكبد الوبائي الفيروسي، إضافة إلى إخراج 33 مستشفى عن الخدمة و64 مركزا صحيا و161 مؤسسة صحية وتدمير 131 سيارة إسعاف.
كما خلف عدوان الاحتلال آثاراً كارثية على البنية التحتية للمياه، وشبكات المياه ومصادر إمدادات المياه بشكل عام، إذ تـم تدميـر نحو 40% مـن شـبكات الميـاه وتعطلــت المضحــات الرئيســية بســبب القصــف أو بســبب نفــاد الوقــود.
وأكد بيان الإحصاء المركزي الصادر قبل عدة أيام، أن 4% فقط من سكان قطاع غزة كان لديهم وصول إلى مياه مدارة بشكل آمن وخالية من التلوث في فترة ما قبل العدوان، أما في ظل العدوان الحالي، وعدم توفر الوقود اللازم لتشغيل محطات تحلية المياه ومحطات الضخ وتشغيل الآبار، فإن السكان بالكاد يحصلون على مياه للشرب وبمجملها تكون غير آمنة، حيث أنه لا يتوفر سوى محطة تحلية مياه واحدة تعمل بقدرة تشغيلية تبلغ 5% ومحطتين متوقفتين عن العمل بشكل كلي بسبب انقطاع الكهرباء ونقص الوقود.
يذكر الدكتور تيسير جبارة، في دراسته “السيطرة الصهيونية على المياه في فلسطين” المنشورة في مركز الأبحاث الفلسطيني، ارتباط المياه منذ البداية بعمليات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين. فقد وصلت الهجرة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى منطقة مصادر المياه في شمالي فلسطين. فكانت الهجرة الأولى من عام 1881–1904، والهجرة الثانية من عام 1905–1914م، والهجرة الثالثة من عام 1919م–1923م.
لقد ذهبت الهجرات الثلاث الأولى إلى منطقة مصادر المياه في شمالي فلسطين، ثم اتجهت موجات الهجرة الصهيونية الرابعة من عام 1924–1928م والخامسة 1932–1935م إلى منطقة السهل الساحلي ووسط فلسطين تمهيداً لإنشاء الكيان.
ومنذ إحراق محاصيل الفلاحين والمزارعين في نكبة 48 وقبلها بسنوات، مروراً بالسيطرة على 85% من المياه الفلسطينية منذ بدايات الاحتلال الإسرائيلي، والاستيلاء على أكثر من 78% من مساحة فلسطين، وصولاً في هذه الأسابيع إلى مصادرة الأسمدة الزراعية، يعمل الاحتلال إلى جانب مذابحه وجرائمه كافة التي ارتكبها ويرتكبها في قطاع غزة إلى قتل الفلسطيني والتمثيل بجثته بجنازير دباباته، حتى وإن بات بلا أرض وبيت ومأكل ومشرب ودواء، الفلسطيني الذي لم يبتلعه بحر غزة بأمنيات رابين قبل أربعين عاماً، ولم يُوطن في سيناء كما أراد له “ييغال ألون” أحد قادة الهاغاناه والبالماح، في 1967 و1973 خلال منافسته على رئاسة حزب العمل الإسرائيلي، أو كما اقترح شارون في 1971، ومن بعده رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي “غيورا أيلاند” في 2000.