نشرت وكالة أسوشييتد برس، الأربعاء، تقريراً يظهر كيف أدت روايتين إسرائيليتين كاذبتين حول العنف الجنسي المزعوم في عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى تعزيز الموقف المناهض لدولة الاحتلال وحربها المتواصلة على قطاع غزة.
وإثر العملية التي نفذها مقاتلو كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، في السابع من أكتوبر، انتشرت مزاعم إسرائيلية حول ارتكاب مقاتلي “القسام” “جرائم عنف جنسي” ضد سكان مستوطنات غلاف غزة، ووجدت طريقها إلى العديد من وسائل الإعلام الدولية، وأبرزها صحيفة ذا نيويورك تايمز الأميركية. لكن هذه الادعاءات فضحت على التوالي وبالتدريج من قبل جهات صحافية متعددة.
كان حاييم أوتمازغين أحد متطوعي منظمة زاكا الإسرائيلية للإغاثة يعمل في إحدى الكيبوتسات التي كانت جزءاً من عملية السابع من أكتوبر، حين عثر على جثة مراهقة مقتولة بالرصاص وسروالها مسحوب إلى أسفل خصرها في غرفة منفصلة عن بقية عائلتها، ليعتقد أن ذلك دليلٌ على تعرضها لاعتداء جنسي من قبل مقاتلي “القسام”.
روى أوتمازغين للصحافيين ما رآه، وبكى أثناء تقديمه شهادته في الكنيست الإسرائيلي، لتنتشر مزاعمه في كلّ أنحاء العالم، قبل أن يتضح لاحقاً أن العنف الجنسي الذي ادعى حدوثه في المنزل لم يحصل قط. قال أوتمازغين في حديث مع وكالة أسوشييتد برس: “ليس الأمر أنني اخترعت القصة”، موضحاً بالتفصيل أصول ادعائه الأولي، مضيفاً: “لم أستطع التفكير في أي احتمال آخر. في النهاية، عندما اتضح أن الأمر مختلف غيّرت روايتي”.
فتحت الروايات الكاذبة المماثلة لرواية أوتمازغين حول العنف الجنسي في السابع من أكتوبر الباب أمام الشك في السردية الإسرائيلية، وعزّزت الانتقادات الموجهة لها وللعدوان المتواصل على قطاع غزة، كما أنّها كشفت كيف يمكن أن تكون المعلومات غامضة ومشوهة في فوضى الصراع.
“زاكا” المصدر الأولي لاتهامات العنف الجنسي
كان متطوعو “زاكا” من أوّل المجموعات التي وصلت إلى أماكن القتال، مما جعلهم في صدارة “الشهود” على ما جرى، واستعملت شهاداتهم من قبل الصحافيين والحكومة الإسرائيلية للترويج لادعاء ارتكاب مقاتلي حماس اعتداءات جنسية.
لكن بعد فضح زيفها، راحت دولة الاحتلال تتهم المجتمع الدولي بتجاهل مزاعم العنف الجنسي بدعوى التحيز ضدها، معتبرةً أن وجود روايات كاذبة لا يلغي وجود ارتكابات عنيفة فعلية من قبل حماس. في المقابل، اعتبر مناهضو الاحتلال أنّ الشهادات الكاذبة لمتطوعي “زاكا”، تثبت كيف تشوّه الحكومة الإسرائيلية الحقائق المرتبطة بحربها على غزة وتزيّف المعلومات، خاصة مع غياب أي أدلة على وقوع هذه الممارسات.
برّر أفراد من “زاكا” تحدثوا إلى “أسوشييتد برس” رواياتهم المتضاربة بالظروف المرافقة لعمليات الإغاثة التي قاموا بها، إذ ظل معظمهم من دون نوم لمدة ثلاثة أيام، كما أنّهم عملوا في ظلّ القصف المتواصل من القطاع على مستوطنات غلاف غزة، بحسب وصفهم.
أرسلت المنظمة قرابة 800 متطوع، وصلوا مساء السابع من أكتوبر إلى موقع مهرجان سوبرنوفا الموسيقي، وانتظروا يومين قبل الدخول إلى الكيبوتسات، بحسب أوتمازغين. كانت مهمتهم محصورة بجمع جثث الموتى وإرسالهم لتحديد هويتهم ودفنهم في أسرع وقت ممكن، وفقاً للشرائع اليهودية.
كان المتطوعون، يجولون في ظل حماية عسكرية، من منزل إلى آخر، من أجل لف الجثث في أكياس بلاستيكية، مع كتابة معلومات تعريفية عن أصحابها، ومن ثم تلاوة صلاة حداد عليها، قبل نقلها إلى الشاحنات، وفقاً لتومر بيرتس، الذي تطوع لأول مرة مع “زاكا” في الأيام التي تلت “طوفان الأقصى”. قال أوتمازغين: “لقد عملنا لمدة دقيقة ونصف على كل جثة، من لحظة لمسها إلى لحظة وضعها في الشاحنة”.
وقال بيريتس، وهو فنان مقيم في الولايات المتحدة، إن متطوعي “زاكا” لم يقوموا بأي فحص شرعي للجثث، وكانوا يعتقدون أن الجنود الذين قاموا بتطهير المنازل من المتفجرات مسبقاً هم المسؤولون عن الجانب الجنائي، وهو ما لم يحدث. بدوره قال أوتمازغين إنّ مسؤولي الطب الشرعي كانوا موجودين في الكيبوتسات لكن بشكل محدود، كما لم يتمكنوا من اتباع بروتوكولات الفحص الجنائي، بسبب العدد الكبير للقتلى، وفق قوله.
وأقرّت المديرة التنفيذية لرابطة مراكز أزمات الاغتصاب في إسرائيل، أوريت سوليتسينو، بأنّ العديد من الروايات التي ظهرت في الأيام الأولى للحرب تبيّن أنّها “غير حقيقية” بعد خضوعها للتدقيق، لكنّها رفضت وصفها بـ”الأكاذيب”، معتبرة أنّها كانت مجرد أخطاء.
بعد أن سمحت حكومة الاحتلال لهم بدخول الكيبوتسات، لجأ الصحافيون للحصول على معلومات من متطوعي “زاكا” المنتشرين في المكان. قال أستاذ الاجتماع في الجامعة العبرية، جدعون آران، الذي أنجز كتاباً عن المنظمة، إنّ عامليها “كانوا يتظاهرون، وأحياناً بسذاجة شديدة، بمعرفتهم بما حدث للجثث التي يتعاملون معها”. على الرغم من أنّهم ليسوا متخصّصين في الطب الشرعي.
وقال الناطق باسم “زاكا”، موتي بوكجين، إن المنظمة لم تتمكن من تطبيق قواعد الظهور الإعلامي خلال الأحداث، وإن متطوعيها تحدثوا من تلقاء أنفسهم إلى الصحافيين، فيما قال بيرتس المتطوع لأول مرة إنّ “المعلومات انتشرت بشكل فوضوي، ولم تخضع للرقابة”.
و”زاكا” هيئة مدنية خاصة تتكون من 3000 عامل متطوع معظمهم من اليهود الأرثوذكس، سبق لها أن عملت في إسرائيل وخارجها، بما في ذلك زلزال وتسونامي عام 2011 في اليابان وهجمات عام 2002 في مومباسا الكينية.
شهادتان كاذبتان
أقرّ أوتمازغين في حديثه مع وكالة أسوشييتد برس بأنّه كان مصدر إحدى الشهادتين المفضوحتين حول وقوع أعمال عنف جنسي. قال إنه بعد دخوله منزلاً في كيبوتس بئيري، عثر على جثة فتاة مراهقة مفصولة عن أقاربها، وكان سروالها مسحوباً إلى الأسفل، ممّا دفعه للافتراض أنّها تعرضت لاعتداء جنسي. أضاف: “لقد ذبحوها، وأطلقوا النار على رأسها، وجرّت إلى هناك. أطلب من شخص ما أن يقدم لي تفسيراً مختلفاً”.
في الوقت نفسه، أصرّ المتطوع الإسرائيلي إنّه لم يقل صراحةً أن الفتاة التي رأى جسدها قد تعرضت لاعتداء جنسي، مشيراً إلى أنه أخبر الصحافيين ونواب الكنيست الإسرائيلي بتفاصيل ما رآه وسألهم عما إذا كان لديهم تفسير آخر. استغرق الأمر ثلاثة أشهر قبل كشف زيف ادعاءات أوتمازغين، فبعد التحقق من الاتصالات العسكرية، اكتشفت منظمة زاكا أن مجموعة من الجنود قاموا بجرّ جثة الفتاة عبر الغرفة للتأكد من أنها ليست مفخخة، ممّا أدى إلى سقوط سروالها.
كذلك، انتشرت شهادة أخرى احتوت على تفاصيل مشابهة لتلك التي قدمها المتطوع، ونسبت إلى مسعف عسكري مجهول، لكنّه لم يكشف عن المكان الذي شاهد فيه الحادثة. من ثمّ منع جيش الاحتلال المسعف من إجراء المزيد من المقابلات، لذلك لم يكن من الممكن التوفيق بين الروايتين أو التحقق من رواية المسعف.
أمّا الشهادة الكاذبة الثانية التي قدمها متطوعو “زاكا”، فجاءت من يوسي لانداو الذي روى لوسائل الإعلام الدولية أنّه عند دخوله منزلاً في كيبوتس بئيري، شاهد امرأة حبلى مقتولة على الأرض، وجنينها لا يزال معلّقًا بالحبل السري المنتزع من جسدها.
استدعى لانداو على وجه السرعة أوتمازغين الذي كان يشرف على مجموعةٍ من المتطوعين، لكن الأخير لم ير ما وصفه زميله. بدلاً من ذلك، رأى جثة امرأة ثقيلة الوزن وقطعة غير واضحة المعالم مربوطة بكابل كهربائي، إذ كان كل شيء متفحماً.
ادعى أوتمازغين إخباره لانداو بأن تفسيره كان خاطئًا، لكنّ لانداو بقي مصراً على روايته، واستمر في سردها للصحافيين الذين نشروها في وسائل الإعلام حول العالم. كما ادعى، مع مسعفين آخرين، أنه رأى أطفالاً ورضّعاً مقطوعي الرؤوس، من دون أيّ دليل، ممّا أدى لاحقاً إلى فضح كذبه حتى من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية. ولم يستطع مراسلو “أسوشييتد برس” أن يحصلوا على تعليق من لانداو الذي غاب عن السمع بعد أن تجاوب مع استفساراتهم الأولية.
زعزعة الرواية الإسرائيلية
تحولت حقيقة ما جرى في السابع من أكتوبر إلى محطةٍ للنزاع العالمي في وسائل الإعلام وعبر منصات التواصل الاجتماعي، مع تشكيك مئات الآلاف من المتابعين في صحة المزاعم الإسرائيلية، وأدى ذلك إلى دحض المزيد من الادعاءات الإسرائيلية عن العنف الجنسي المزعوم.
مع ذلك، فقد قال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، الاثنين، عند إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين في “حماس” وحكومة الاحتلال إن “هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأن الرهائن المحتجزين من إسرائيل تم احتجازهم في ظروف غير إنسانية، وأن بعضهم تعرضوا للعنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب أثناء احتجازهم في الأسر”.
لكن مناهضي الحرب قدموا تساؤلات حول جديّة الأدلة الإسرائيلية ومصداقيتها، خاصةً أنها تستند إلى شهادات كاذبة. كان موقع oct7factcheck.com، الهادف إلى مكافحة “الدعاية الفظيعة” التي يمكن أن “تبرر الأعمال العسكرية أو السياسية”، قد فضح مراراً زيف السردية السائدة في التقارير الصحافية التي نشرتها وسائل الإعلام الدولية حول العنف الجنسي في السابع من أكتوبر.
وأكّد القائمون على الموقع، الذي يديره تحالف فضفاض من موظفي صناعة التكنولوجيا الذين يدعمون الحقوق الفلسطينية، إنهم لم يتوصلوا حتى الآن إلى نتيجة تؤكد حدوث عنف قائم على النوع الاجتماعي، ولفتوا إلى أنّ أعضاء منظمة زاكا “يقفون وراء العديد من افتراءات 7 أكتوبر”.
وقال الباحث في مؤسسة الشبكة الفلسطينية، طارق كيني الشوا، في حديث مع “أسوشييتد برس”، إن التاريخ الطويل للتضليل والدعاية الإسرائيلية قد أثار الشكوك العالمية حول مزاعمها الأخيرة، لافتاً إلى أن فضح شهادات متطوعي “زاكا” دعم الاعتقاد بأنّ إسرائيل كذبت حول ما جرى في عملية طوفان الأقصى، بهدف تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم لتبرير عدوانها المتواصل على قطاع غزة.
وأضاف الشوا: “إن التشكيك في جميع الادعاءات التي يقدمها الجيش الإسرائيلي، وهو الجيش الذي يجري التحقيق معه بتهمة الإبادة الجماعية في لاهاي، ليس مبرراً فقط، بل ينبغي تشجيعه. لهذا السبب يطالب الفلسطينيون ومعظم المجتمع الدولي بإجراء تدقيق شامل”.