في مشهد روحاني مهيب امتلأ صحن الطواف بالحرم المكي الشريف بالحشود الغفيرة من المعتمرين والطائفين الذين توافدوا من داخل وخارج المملكة لأداء المناسك.
وورد في فضل العشر الأواخر من رمضان كثير من الأحاديث التي تبين هدي النبي صلى الله عليه وسلم والحرص على المبادرة بالأعمال الصالحة، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تعلمنا أنه كان يعامل العشر الأواخر معاملة مختلفة عن باقي أيام وليالي الشهر الفضيل، وفي فعل النبي صلى الله عليه وسلم حث لباقي الأمة على الاجتهاد بالعبادة في مثل هذه الأزمنة المباركة.
وعلى المسلم أن يقتنص الفرصة ويراعي في برنامجه الإكثار من الطاعات ويستفيد أقصى فائدة لزيادة رصيده من الحسنات وفق الهدي النبوي ويتقرب إلى الله بمزيد من الطاعات ويبتعد عن الملهيات.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من شهر رمضان، ما لا يجتهد في غيرها (رواه مسلم) عن عائشة ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها (متفق عليه).
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ” كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره ” (زاد مسلم وجَدَّ وشد مئزره).
وقولها: ” وشد مئزره ” كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ، ومعناه التشمير في العبادات. وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وترك الجماع .
وقولهم ” أحيا الليل ” أي استغرقه بالسهر في الصلاة وقراءة القرآن وتدبر معانيه، وطلب المغفرة والرضوان.
وقد جاء في حديث عائشة الآخر رضي الله عنها : ” لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان” (سنن النسائي) فيحمل قولها ” أحيا الليل ” على أنه يقوم أغلب الليل . أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل .
اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عني
وعن عائشة رضي الله عنها قالت، قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت اي ليلة ليلة القدر ما اقول فيها ؟
قال : قولي “اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عني”.
شرح الحديث
المفردات
العفوُّ: أصله المحو والطمس: مأخوذ من عفت الرياح الآثار إذا أخفتها ومسحتها وهو من صيغ المبالغة على وزن ((فعول)) وهو اسم من أسماء اللَّه الحسنى يدل على سعة صفحه عن ذنوب عباده مهما كان شأنها إذا تابوا وأنابوا.
الكريم: هو البهي الكثير الخير، العظيم النفع
الشرح:
إن تعليم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهذا الدعاء، دون غيره في هذه الليلة المباركة (ليلة القدر) ، كما دلّ على ذلك حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] يدل دلالة واضحة على أهميته، فالعفو هو سؤال اللَّه عز وجل التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه. قال القرطبي رحمه اللَّه تعالى: ((العفو، عفو اللَّه عز وجل عن خلقه، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها، بخلاف الغفران، فإنه لا يكون معه عقوبة البتة)).
قوله: ((تحب العفو)) أي أن اللَّه تعالى يحب أسماءه وصفاته، ويحب من عبيده أن يتعبَّدوه بها، والعمل بمقتضاها وبمضامينها [ويحب اللَّه تعالى العفوَ من عباده بعضهم عن بعض فيما يحب اللَّه العفو فيه].
وهذا المطلب في غاية الأهمية، وذلك أن الذنوب إذا تُرِكَ العقاب عليها يأمن العبد من استنزال اللَّه تعالى عليه المكاره والشدائد، حيث إن الذنوب والمعاصي من أعظم الأسباب في إنزال المصائب، وإزالة النعم في الدنيا، أما الآخرة فإن العفو يترتب عليه حسن الجزاء في دخول النعيم المقيم.
ولا يخفى في تقديم التوسل باسمين كريمين للَّه تعالى قبل سؤاله له أهميّة جليلة في إعطاء المرجوّ منه تعالى.