لا كلمات تصف وجع تلك الأم التي انتظرت أحد عشر عاماً حتى يناديها طفلاها التوأمان بـ”ماما”، لتشعر أنها ملكت الكون، ثم تأتي الحرب وتخطفهما قبل أن يدغدغ قلبها سماع تلك الكلمة، لتكون من الصور الأليمة التي يتبادلها العالم الآن، معنونةً بصرختها “من سيقول لي ماما؟”، وتخفي الكثير من ملامح الاحتفال بـ”يوم الأم”.
اعتاد العالم أن يحتفل بـ”يوم الأم” في الحادي والعشرين من آذار (مارس) من كل عام، بالتزامن مع بداية فصل الربيع، وتتعدد أشكال الاحتفاء بالأم، كل حسب عاداته وتقاليده وثقافته، وتنشط وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في الحديث عن الأم، ونسمع أغاني الأمومة التي تُفرح كثيرين وتُبكي آخرين، إما حنيناً أو حباً للأم التي فقدها أو غاب عنها مجبراً.
يأتي يوم الأم هذا العام، يجر خلفه آلاف القصص اليومية التي تحاكي آلام الأمهات في غزة، خلال الاعتداء الوحشي على الشعب “الغزي” فيها، لتكون الأمهات واجهة الألم، بين أم فقدت أبناءها أو زوجها، ووجه آخر من الوجع في فقد الأمهات اللواتي احتوين عائلاتهن في قطاع غزة منذ سنوات في ظروف استثنائية يشهدها القطاع منذ فرض الحصار عليه قبل ما يقارب 17 عاماً.
لا تخلو تلك المقاطع المصورة والتقارير الإخبارية يومياً من الحديث عن أمهات غزة، صورة تضرب أوجاعها إلى عمق الأرض، لأم تطلق صرختها تنعى إما ابناً أو ابنة، وأخرى تحاول أن تحوي أبناءها الذين باتوا أيتاماً بعد استشهاد الأب، لتكون الأم الغزية هي “الأم، الأب، والجدار الحامي للأسرة في الوقت ذاته”.
رانيا أبو عنزة، هي تلك الأم التي توجه سؤالها للعام “من سيقول لي ماما؟”، بعد أن قضت الحرب على الأبناء والزوج والعائلة، التي ما يزال عدد منهم تحت الأنقاض، لتساندها الأمهات المحيطات من حولها، ويصبحن لها أمهات أيضاً، يرممن جرحهن الغائر، الذي لا تنسيه السنون، وتعلق في أذهان الشعوب صورتها التي تحولت إلى “لوغو للألم”، وهي تحمل طفليها وهما مكفنان، ودماؤهما ما تزال عالقة في لباسها وتخاطبهما وكأنهما أحياء، وهما لم يتجاوزا الأشهر الستة من العمر.
الدكتورة آلاء القطراوي، أم لأربعة أطفال، لم تمهلها القذيفة أن تحتضن أطفالها، الذين باتوا الآن شهداء تحت ركام البيت منذ ما يقرب ثلاثة أشهر، وفي كل وقت تكتب لهم رسائل تخاطبهم بها وكأنهم يستمعون لها، لم تتجاوز فكرة الفقد إلى الآن ربما، وتسألهم عن حالهم تحت الركام، وتمثل حال آلاف الأمهات في القطاع اللواتي باتت أمنيات أكثرهن أن “يحصلن على فرصة لدفن أحبائهن والاطمئنان عليهم تحت الثرى أكثر”.
وفي حديثها المبتور من طرف واحد، تخاطب القطراوي ابنتها أوركيدا، وتقول “أخاف من كلمة ماما حين أسمع طفلة أخرى تنادي بها على أمها، فأغمض عينيّ وأتمنى لو تمد السماء ذراعيها وتنتشلني من هذا العذاب اليومي”، وكتبت كذلك تصف حال الأم الغزية، وتقول “إن أقسى ما في هذه الحرب، أن تفقد الأم كل أمومتها وهي لا تستطيع حتى أن تعرف أين يوجد أطفالها، عدا عن كونها لا تستطيع حمايتهم”.
“فداني بروحه وهو كل روحي”، هي أيضاً عبارات تصف فيها والدة أحد الشهداء الذي آثر نفسه على والدته، وفضل أن يكون شهيداً، على أن تصاب والدته بأذى من قبل الاحتلال، ولكنها رغم ذلك، ترى أنها تعيش في حالة حزن دائمة لن تفارقها، بعد أن فقدت بكرها الذي حملته وهناً على وهن.
وأم أخرى تعود أدراجها بعد أن ذهبت للبحث عن “كيس طحين للأولاد”، كما تقول، لتتفاجأ بأن بيتها بات ركاماً و”الأولاد والزوج تحت الأنقاض”، ولم تسعفها صرخاتها للنجدة لتنقذ فلذات كبدها من الموت، لتكون صورة أخرى من صور “موت أمهات غزة وجعاً وألماً وحسرةً على من كانوا سبباً في جعلهن أمهات”.
وما يزال صوت تلك الأم يزلزل مسامع العالم في بدايات الأعتداء على قطاع غزة، وهي تقول “الأولاد ماتوا وهم جوعانين”، ومن شدة حزنها نسيت أنهم شهداء، وبكت وانتحبت على كونهم “جوعانين”، لتتضاعف صور الوجع لأمهات غزة يوماً بعد آخر، وساعةً بساعة بفقدان فلذات كبدهن ومن كان يلامس شغاف قلبهن حين تُنادى إحداهن بـ”ماما”، ليكون يوم الأم لهذا العام مختلفاً بكل المقاييس، تبتعد فيه أشكال “البهرجة” في هدايا الأم من كماليات البيت والحياة، لتلخص إحدى الأمهات الغزيات الحال، بقولها “إحنا ناس مش تاعون دنيا إحنا إلنا الآخرة”، بعد وجعها على فقد الأحبة والأبناء.
ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في فلسطين، صرح في إحدى المقابلات، أن هناك 180 امرأة تضع مولودها في غزة، في ظل ظروف غاية في الصعوبة؛ أي أن هناك 180 أما جديدة في غزة، تختبر بعضهن شعور الأمومة في ظل أصعب الظروف التي يمر بها قطاع غزة منذ عقود، بل إن فرحتهن بالأمومة منقوصة عند رؤيتهن أطفالهن بأوضاع صحية غير ملائمة، ومنهن من فقدن مواليدهن بالفعل بسبب سوء الخدمات الغذائية والطبية.
بينما تظهر إحصائية رسمية أخرى، أن الحرب في غزة تودي بحياة ما يقرب 37 أما يوميا، يعيش فيها أطفال ويافعون، وشباب كذلك، شعور فقد الأم، الذي مثله كذلك المئات من الصور والمقاطع التي تظهر وجع الأسرة بأكملها لفقدان الأم وحنانها واحتوائها للعائلة، خاصة وأن تصريحات منظمة اليونيسيف تبين وجود نحو 17 ألف طفل يتيم على الأقل، بما يقدر بـ1 % من مجمل أعداد النازحين في القطاع.
“الأم” في يومها كانت وما تزال مركز القوة والمحبة والحنان، لا يضاهيها أي تشبيه، أوصى بها النبي عليه السلام بقوله “أمك، ثم أمك، ثم أمك”، ولكن، ومن خلال الحديث عن الأم الغزية، يكون الوجع أضعافا على قلبها المفطور، لفقد، أو حزن أبنائها على فقدها، وهنا يقول الاستشاري وخبير الاجتماع الأسري مفيد سرحان “إن هذه الحرب أظهرت قوة إرادة أهالي غزة وصبرهم وإصرارهم على المقاومة والصمود، وكان للمرأة في غزة دور واضح ومميز في هذه المعركة؛ أما وزوجة وأختا وبنتا”.
وقد أثبت الواقع أن المرأة في غزة قامت بدور كبير في إعداد الجيل على الصبر والتضحية والإصرار على نيل حريته، وأعداد الشهداء الكبير والجرحى لم تضعف من عزيمتهم، كبيرهم وصغيرهم، والأم في غزة ترجمة عملية للمقولة التي طالما رددها العالم “الأم مدرسة الأجيال”، “والأم مربية الأجيال”، وفق سرحان، وإنها المدرسة الأولى التي تعمل في جميع الظروف وأصعبها، فمع توقف الدراسة في المدارس والجامعات، ما تزال الأم في غزة تقوم بواجبها في التربية والإعداد والرعاية دون توقف وتحت القصف ليلا نهارا.
ويرى سرحان أيضاً، أنها في كثير من الحالات، باتت الأم الغزية تقوم بدورها ودور الرجل، بتعدد الأسباب، وهي روح الأسرة التي تبث فيها الحياة وتمنحها التفاؤل والإصرار على الصمود الأسطوري، والتي تحمل ابنها الشهيد وهي “تحمد الله”، وتهتف “إننا صامدون باقون في أرضنا”، “وكلنا فداء فلسطين”، وتخرج من تحت الأنقاض رافعة رأسها وتمسح على رؤوس من تبقى من أبنائها صابرة محتسبة.
ويلفت سرحان إلى الصور التي تبين عِظم عزيمة الأم الغزية، ولم يضعف النزوح المتكرر مشيا على الأقدام من إرادتها، بل زادها صلابة وإصرارا، وهي مدرسة في “إدارة الأزمات”، زاد من العبء عليها إغلاق المعابر ومنع الطعام والدواء وندرة المياه واستمرار القصف، والذي لم يزحزح نساء غزة عن أرضهن.
“الأم في غزة تحمل معاني الحب؛ حب الوطن والابن والزوج والأخ والمجتمع”، كما يقول سرحان، وهي نبع حنان تفيض به رغم قسوة الظروف من حولها، فتضمد الجراح، وتبث السكينة في النفوس، والعطاء عندها لا يتوقف رغم الحصار والقصف وحرب التجويع، بقيت وفية لوطنها وأمتها ولقيم الحق والعدالة والحرية بالرغم من خذلان العالم، وهي الآن تحتفل بيومها على طريقتها في صبر وصمود وتضحية، عرفت رسالتها فترجمتها على أرض الواقع. ويختم سرحان القول “إن الأم في غزة هي النموذج والقدوة الحسنة لكل نساء العالم”.