من بين الركام.. غزة تضغط على جرحها النازف وتتزين بمظاهر فرحة رمضان

“رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه أهلاً رمضان..”، كلمات تغنى بها شاب من غزة المكلومة، يعرض فوانيس وزينةً للاحتفاء بالشهر الكريم، وسط حالة الحرب الطاحنة، والوضع الأقرب “للمجاعة” الذي يعانيه شمال القطاع، إلا أن “السعي نحو خلق الفرح بالشعائر حاضر بكل المشاعر”.
ويظهر في العديد من المقاطع المصورة التي يتبادلها سكان القطاع، ووجدت رواجاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عائلات غزية تحتفي بشهر رمضان المبارك، وبزينة مضاءة على “خيم النازحين” والبيوت التي ما زالت تقاوم الهدم، وأطفال يتسابقون لتعليق زينة رمضان، الهلال والنجمة، الأمر الذي يعكس انتفاضة الفرح والبهجة التي يلقون بها حلول رمضان، من بين الركام والهدم “وقبور الشهداء”.
غزة، التي يفوح منها مسك الشهداء تتزين لرمضان، كما تتزين الجنة بحلول الشهر الكريم، فكما جاء في الحديث النبوي، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول”، وفي ذلك يستدل الناس على أهمية إظهار الفرحة بالشهر الكريم بما يتناسب وطبيعة المجتمع، وأن لا يكون هنك مبالغة في التفاصيل، وزيادة العبء على الصائمين.
بيد أن العديد من المجتمعات الإسلامية اعتادت ومنذ سنوات على إظهار الزينة في البيوت وعلى الطرقات، وعلى الرغم من التقليل منها في هذه الفترة، تماشياً مع الحرب الشرسة على غزة، إلا أن مظاهر الفرح لا بد لها من الظهور، وهو ما عمد إليه سكان غزة، رغم كل ما أصابهم من ألم الفقد والنزوح، الأمر الذي دفعهم إلى وضع الزينة حتى على مداخل خيمهم الهشة.
“نحن خُلقنا للفرح وللحياة، وإحياء شعائر الله على الأرض”، هي تلك الحالة التي يعيشها جزء كبير من سكان قطاع غزة المنكوب، ينتظرون رمضان على أمل أن يكون أوله رحمه، يحمل معه رحمات تخفف آلام الغزيين، في أجواء تختلط فيها المشاعر، ما بين الوجع، والاستعداد لاستقبال الضيف “بزينة مضيئة تنير خيامهم وبقايا البيوت المهدمة”.
وأظهرت المقاطع المصورة كذلك، صورا لعرض الكثير من مستلزمات رمضان “المتوفرة” بالسوق، والتي يسارع السكان والنازحون للحصول عليها، رغم ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق، إلا أن “لهفتهم على أن تطغى أجواء رمضان على بيوتهم وأطفالهم تدفعهم لأن يستغلوا تلك الأجواء لرفع المعنويات و”علاج نفسي للأطفال”، والدعوات في رمضان بأن “تنتهي الحرب ويتوقف شلال الدم الذي أراق آلاف الأرواح”.

 


في شمال غزة، المنكوب تماماً، ظهرت في أحد مقاطع الفيديو مجموعة كبيرة من الشباب المتطوعين من أبناء المدينة، يسارعون الوقت ويحضرون طلاء الجدران، يزينون حاراتهم بالألوان الزاهية، التي تبعث على التفاؤل، ويخطون عليها عبارات الفرح والأمل بلقاء الأهل النازحين.
أحد الشباب قال في بداية المقطع “إحنا بشمال غزة الجوع والخوف سيطرا علينا، لكنا نستقبل الشهر الكريم بالفرح والتفاؤل لأنه رمضان كريم في غزة”، وكتب أحدهم بخط كبير “كل عام وأنتم بخير، رمضان يجمعنا بأهالينا”، فيما رسم آخرون فوانيس رمضان والأطفال من حولهم فرحين بما يشاهدونه من تحضيرات الفرح بالشهر الفضيل، بعد أن غابت الفرحة عنهم لأشهر تخللها الكثير من الألم والفقد.
كما أظهرت مقاطع أخرى تعاون مجموعة كبيرة من سكان المدن الغزية، كما في رفح، بإزالة أكوام الأنقاض عن المساجد المدمرة، وفرشها من أجل الاستعداد لإقامة صلاة التراويح خلال شهر رمضان، الأمر الذي بث في القلوب السعادة والأمل بقرب انتهاء الحرب، حتى وإن كانت العودة إلى الحياة الطبيعية في القطاع أمرا بعيد المنال.
ولكون الفرحة في رمضان مرتبطة بالأطفال، قامت العديد من المبادرات الخيرية الشبابية بتوزيع الفوانيس المضيئة على الأطفال في مختلف مناطق القطاع، ليكون الأطفال على موعد من فرحة استقبال رمضان التي اعتادوا عليها في كل عام، رغم صعوبة الحال في هذا العام، ولكن على اعتبار أنها سنة وفرحة مشروعة، كان لزاماً على الكبار أن يعكسوها على الصغار بشتى الأشكال، إذ تزينت أيادي الأطفال بالفوانيس الملونة، يتغنون بقدوم “رمضان”.
وعلى الرغم من الدعوات العالمية للعمل على وقف إطلاق النار، وإن كان بهدنة زمنية خلال رمضان، إلا أن الناس في غزة ما زالوا يعانون الكثير من أوجاع الحرب والحصار والقصف الدموي الصهيوني الذي لا يرحم بيتاً ولا مسجداً ولا مشفى، إلا وطاله في قطاع غزة.
لذلك، تخرج أصوات الغزيين التي تطالب بضرورة أن يكون هناك تكثيف لدعوات وإجراءات وقف إطلاق النار، على أمل أن يكون رمضان “هادئاً بلا صوت مدافع وقصف”، وأن يراعي العالم الوضع في غزة، ولا يبالغون في الاحتفاء بمظاهر رمضان، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي يصل صداها إلى داخل القطاع ومشاهدة تلك المقاطع من السكان “المنكوبين”.
هي مشاهد قوة، وبث الحياة في الأمكنة، تلك هي الصور التي تصل يوماً بعد يوم من غزة، وما زالت مظاهر الحياة تعود إلى الغزيين، ولسان حالهم يقول “الحياة سوف تستمر بنا والتأقلم هو سيد الموقف الآن”، في الوقت الذي ما زال المشهد الضبابي للحرب على غزة “غائماً”، ولا حلول سريعة تلوح بالأفق.
هذا التفاعل “الغزي” بقدوم رمضان، هو جزء من التأقلم الذي اعتاد عليه سكان القطاع، ولكنه يحتاج إلى عزيمة وقوة وصبر وجهد جسدي ونفسي، وهنا يقول أختصاصي علم الاجتماع الدكتور محمد جريبيع، إنه مما لا شك فيه أن الحرب الإسرائيلية الدائرة الآن، وما يحدث بها من جرائم ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، لا بد لها أن تترك آثاراً وتحولات وتغيرات عديدة ليست في بنية المجتمع فحسب، بل في بنية الأسرة.
وبالتالي، أصبح كل فرد من أفراد المجتمع الفلسطيني يعيش معاناة دائمة وكل شخص تعرض لحالة من الفقد، كما يقول جريبيع، بمعنى أن هناك أنماطا جديدة من الأسر في المجتمع الغزي، وحالة من التفكير الجديد بين الأفراد ولدى الأسرة، ولكن المجتمع الفلسطيني مجتمع متكامل كما المجتمعات العربية الأخرى، “محافظ تشكل الأسرة فيه إحدى أهم المؤسسات وهي المؤسسة الحاضنة لأفرادها”، لذا كل أسرة عانت من الفقد والتشرد والحرمان، لديها الخبرة الطويلة في هذا الاعتداء ما يساعدهم على التأقلم والعيش برغم أحلك الظروف، إلى حين تجاوز هذه الغمة.
ووفق جريبيع فإن المجتمع الغزي يتوقع أن الحرب قادمة في كل وقت، طالما الاحتلال موجود، غير أن المجتمع يحاول التكيف، ولديه روح التحدي، التي تُعد البوصلة الأساسية التي تساعد على الحياة.
استطاع الغزي أن يطور أدوات للتكيف، وأن يستمر بالحياة متمسكا بها، وهذا الحب كان أقوى من كل الأعداء، لأنه يؤمن بقضيته وحقه وهذا ما يشد من أزر الغزيين، كما يقول جريبيع، وقدموا نماذج ليس بالصمود والقوة فقط، بل صور بطولية بالقدرة على التكيف مع الواقع الجديد وخلق سبل وطرق جديدة للحياه.

إقرأ الخبر السابق

رئيس وزراء إسبانيا: سأقترح على البرلمان الاعتراف بدولة فلسطين

اقرأ الخبر التالي

المسلمون يستقبلون رمضان بفرحة ينغصها العدوان الصهيوني على الفلسطينيين

الأكثر شهرة