غرقا في النيل.. رحيل حكواتي فلسطين حمزة العقرباوي

اخبار ع النار-شكل رحيل الحكواتي الفلسطيني والباحث المتخصص في التراث حمزة العقرباوي، عن عمر ناهز 41 عاما، غرقا في نهر النيل، صدمة كبيرة في المشهدين الثقافي والتراثي الفلسطينيين، إذ اعتُبر فقدانه خسارة جسيمة للأرض وحكاية الفلسطينيين المهددة.
وكان الباحث العقرباوي في زيارة عمل إلى جمهورية مصر العربية، حيث أفادت مصادر صحافية بأنه سقط ليلًا من قارب كان يستقله، قبل أن تتمكن فرق الإنقاذ من انتشال جثمانه صباح الثلاثاء.
وعُرف العقرباوي بوصفه حكواتيا مهتمًا بالأرض والتراث، وناشطا ثقافيا، وكاتبا وباحثا في التراث والتاريخ النضالي للشعب الفلسطيني. ونال لقب “حكواتي فلسطين”، وكرّس جهده لجمع الموروث الشعبي الفلسطيني المرتبط بالحياة اليومية للمزارعين، من أمثال وأهازيج ومعتقدات شعبية وقصص ومواسم، حرص على نقلها إلى الناس عبر مقالاته البحثية وعروضه الثقافية القائمة على الحكاية الشعبية.
وُلد العقرباوي، وهو أب لأربعة أطفال، في التاسع عشر من يوليو/تموز عام 1984، في قرية عقربا الواقعة جنوب شرق مدينة نابلس، على بعد 18 كيلومترا منها، والتي كان يصفها بأنها “نجمة بين سهلين”. نشأ في بيئة ريفية متجذّرة في حب الأرض ومرتبطة بالذاكرة الشعبية، ما شكّل حجر الأساس لمشروعه المعرفي القائم على جمع الحكايات، وتوثيق الذاكرة، وربط الجغرافيا الفلسطينية المهددة بالحكاية الشعبية.
أحب العقرباوي تقديم نفسه على أنه “فلاح، يحب الأرض وكل ما يتصل بها”، واعتبر توقيت ولادته بين موسم حصاد القمح وقطف الزيتون بمثابة لعنة حب الأرض والتمسك بها.
إلى جانب الكتابة في التاريخ الشفوي، نشط في تنظيم جولات معرفية ميدانية في القرى والبلدات الفلسطينية، ربط خلالها الجغرافيا بالحكاية، والمكان بالتاريخ، في محاولة لإعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية في مواجهة ممارسات الاحتلال.
كتب العقرباوي مئات المقالات البحثية الغنية لمجموعة واسعة من المواقع والمجلات والصحف الفلسطينية والعربية. ورغم قصر سنوات عمره، أولى اهتماما خاصا بجمع الأرشيفات، ولا سيما تلك التي تعكس تفاصيل الحياة اليومية في فلسطين، كما عمل على تنظيم الجولات ومسارات الطبيعة في مختلف المناطق الفلسطينية.

من الإدارة إلى الأرض

مع بداية الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية عام 2002، كان العقرباوي يتقدم لامتحانات الثانوية العامة. قضى جل وقته آنذاك في مسجد البلدة، حيث كان يعدّ بحثًا عن شهداء بلدته. لاحقًا، تناسى البحث مواصلًا حياته الجامعية في تخصص الإدارة بجامعة النجاح الوطنية، غير أن الفكرة عادت لتطرق رأسه من جديد عام 2006، دون أن يدرك تمامًا الأسباب التي قادته إلى ذلك.
في تلك الفترة، كان يصوّر المواقع التاريخية في قريته، ويطبع الصور، ويسأل ويكتب عن عقربا وتاريخها ومواقعها الأثرية ودورها النضالي، ثم وسّع بحثه ليشمل البلدات والمدن المجاورة، سعيًا لفهم السياق التاريخي كاملًا.
بعد تخرجه من الجامعة، انتقل إلى رام الله، وحصل على وظيفة في إحدى الشركات. وفي عام 2016، حسم أمره وقدم استقالته، تاركًا ما وصفه بـ“حياة العبودية في ظل الوظيفة”، ومتفرغًا للتراث والحكاية الشعبية والارتماء في الأرض بسهولها وجبالها.
كانت أولى مشاركاته التراثية في العام نفسه، حين حضر مهرجان الحكايا في تونس. وأثناء عودته، شعر بأن رسالة ربانية وصلته أوحت له بترك الوظيفة. ونظرًا لمعرفته الواسعة بتاريخ بلدته، عُيّن عضوًا في لجنة الدفاع عن “خربة الطويل” شرق البلدة، التي كانت وما زالت تتعرض لمحاولات مصادرة. عمل هناك على مرافقة المتضامنين والمتجولين في المنطقة، إلى جانب قرية “يانون” التي تعرّضت للتهجير الكامل قبل أيام. ومن خلال تلك المهمة، عُرف بشغفه بالحكايات وقصص الأرض، حيث أدار مجموعة “تجوال سفر”.
في أول تعريف له خلال أحد المهرجانات في عمّان، قال: “أنا مش حكواتي، ولا بعرف شو يعني حكواتي، بس بحب الحكي”. لاحقًا، أسّس “فريق حكايا”، ثم عمل على تدريب مجموعة من الشباب ليكونوا حكواتيين، وتولى مسؤولية تنظيم مهرجانات الحكايا في فلسطين.
كان العقرباوي يرى في التجول في الأرض نقيضا لمنع التجول الذي يفرضه الاحتلال، ويرفع شعار “تجول في الأرض تمتلكها”. واشتهر بقوله: “من لا يعرف بلاده كيف له أن يحبها، ومن لا يحب البلاد كيف له أن يدافع عنها”. كما أتقن تطبيق مقولة الفنان الفلسطيني سلمان ناطور: “ستأكلنا الضباع إذا فقدنا الذاكرة”، من خلال اشتغاله الدائم على الحكاية الشعبية بوصفها أداة لحفظ الذاكرة الوطنية الفلسطينية. وكان يؤمن بأن الاحتلال الإسرائيلي لن يهزم الفلسطينيين إلا بفقدان الذاكرة، وهي الفكرة التي عاش سنوات حياته مخلصًا لها.
كما عمل العقرباوي مع الشهيد باسل الأعرج، ونفذا معا جولات في تاريخ المقاومة، تقوم على اصطحاب مجموعات إلى مناطق شهدت معارك وحروبا ضد الإنكليز والإسرائيليين.
عُرف العقرباوي بالصدق وطيبة القلب وقوة الكلمة والأثر؛ فهو الباحث والقارئ والمتحدث، والصديق المساند دائمًا، الحكواتي المحبوب الأليف، الفلاح الأصيل قلبا وقالبا، ابن البلاد التي لا يعرف خفاياها إلا القليلون، وصاحب الحكايات التي تُنصف الأرض وأهلها.
قضى سنوات من حياته في مسارات البلاد المنسية، يبعث الحياة في الحكايات المطوية تحت غبار الكتب والزمن، تماما كما يفعل ابن البلد الأصيل الذي يحمل الذاكرة في قلبه، ويصون الرواية كما لو كانت جزءا من روحه. وهو ما يجعل من رحيله خسارة كبيرة لحكاية الفلسطينيين وتراثهم.
لقد كان واحدا من أولئك النادرين الذين آمنوا بأن الحكاية فعل مقاومة، وبأن الذاكرة الشعبية ليست ماضيا يُروى، بل حاضرا يُصان ومستقبلًا يُبنى. كان يمشي في البلاد كمن يقرأها سطرا سطرا، يدوّنها ويخبئها في أرشيفه وذاكرته، ليرويها بحب ككنز ثمين.
آمن بأن الذاكرة مقاومة، وبأن الحكاية جسر بين الماضي والمستقبل، فكتب وجمع ووثّق، ليترك للفلسطينيين، وللجيل الشاب على وجه الخصوص، إرثا لا يُقدَّر بثمن، جاعلًا منه رهانا على فاعلية مختلفة تؤمن بالأرض وتتقن لغتها.
وانطلق اهتمام العقرباوي بالموروث والتراث من فكرة كانت تسيطر عليه، مفادها أن موت رجل كبير يشبه إحراق مكتبة كاملة، ليجسد اليوم، في حادثة موته المفاجئ غرقا في نيل مصر، صورة “غرق مكتبة”.

Read Previous

10 دول تحذر من استمرار الوضع الإنساني الكارثي في غزة

Read Next

الانتهاء من عملية إغلاق بوابات سد الموجب

Most Popular