أسماء ربيع المنهالي تكتب: رسالة من مريخ الأرض

رسالة من مريخ الأرض

بقلم: أسماء ربيع المنهالي

أيتها العابرة بين كثبان الضوء،

توقّفي قليلًا…

ضعي قلبكِ على الأرض وأصغي.

ستسمعين وشوشة الرمل،

كأنّه يهمس لكِ:

“أنا لستُ صحراء كما تظنّون،

أنا ذاكرةُ مَن صبروا على العُزلة،

وناموا على يقينٍ أن الصمت طريقٌ إلى الله.”

 

هناك، في وادي رم، تتّسع المسافة بين النبضة والنَفَس،

ويصبح الزمن مرنًا، يتنفّس ببطءٍ كأنه يخشى إيقاظ الجبال.

كلُّ ظلٍّ هنا يصلي،

وعند المساء تلمحين درب التبانة ينادي أولئك الذين يبحثون عن معنى في التيه،

ويتأمّلون في نجم الشمال كأنه وعدٌ بالهداية.

 

في أقصى الجنوب الأردني، يمتدّ الوادي كقصيدة لم تكتمل؛

صحراء بلون الغروب، وصمتٌ يشبه صلاة طويلة.

ليست الرمال رمالًا فحسب،

بل ذاكرةٌ ترقص مع الريح،

تسرد حكايات الأنباط الممتدة من البتراء،

نقوشٌ للحياة محفورة على صخورٍ لا تشيخ.

كلّ حجرٍ يعرف اسمًا،

كأنّه ظلُّ نقشٍ يحمل أثر إنسانٍ مرّ قبل آلاف السنين.

 

وحين يُلقي القمر ضوءه على رمّ الحمراء المريخية،

تتحوّل الأرض إلى سماء ثانية،

وتغدو النجوم لغةً لا تحتاج إلى ترجمة.

يبدو وادي رم ككائنٍ حيّ؛

يسمعكِ حين تصمتين،

ويهدهدكِ حين تتعبين.

 

وسرُّ فرادة هذا الوادي

أنّه ليس صحراء وُلدت من الريح،

بل أرضٌ نهضت من البحر.

كان يومًا ما قاعَ محيطٍ قديم،

تركت أمواجه خطوطها على الصخور،

ثم رحلت في هدوء،

تاركةً صفحاتٍ مفتوحة من ذاكرة جيولوجية

كأنّ الزمن نسي أن يُتمّ فصولها.

لذلك يتنفّس الهواء هنا بطريقة مختلفة؛

فوق كل حافة ظلّ موجٍ قديم،

وفي عمق كل صخرة صدى بعيد لبحرٍ انقضى ولم يغب.

 

وعلى أطراف رم، حيث تمتد الدروب نحو معان،

يطلّ تاريخ آخر—

ظلّ سكة الحجاز التي مرّت بمحاذاة الوادي،

تمرّ كحلم طويل عبر الصحراء.

عبرت القوافل والحجاج من هنا،

والجبال تراقبهم في صمت،

تحفظ وقع خطواتهم

كما تحفظ النقوشُ أثر الذين مرّوا قبل آلاف السنين.

 

لهذا، حين تقفين على تلك الرمال،

تشعرين أنكِ فوق عالمين:

عالمٍ غمره البحر،

وعالمٍ عبرته الحضارات،

وفي البين صمتٌ لا يشبه إلا نفسه.

 

ولذلك اختارته السينما ليجسّد الكواكب البعيدة—

لأنّه ببساطة ليس مكانًا على الأرض،

بل حالة من الوجود،

تلتقي فيها الجغرافيا بالروح،

والزمان بالدهشة.

 

وحين تغادرينه…

لن يغادركِ أبدًا.

سيبقى الرمل في صوتك،

والأفق في عينيك،

وشيءٌ من السكون في قلبك—

يذكّركِ أن بعض الأماكن لا نمرّ بها،

بل تمرّ بنا.

 

هنا، يتعلّم المرء أن الجمال لا تصنعه الكثافة بل الفراغ،

وأنّ السكون ليس غيابًا بل حضورًا ناعمًا،

وأنّ الصحراء ليست قسوة،

بل شكلٌ آخر من الحنان—

حنانٌ يعيدكِ إلى نفسك.

Read Previous

تعزية ومواساة

Most Popular