
حَبل إبستين .. سَيلتّف على أعناق الكثيرين !!
في ظاهرة جيفري إبستين ما يتجاوز الفضيحة إلى ما يشبه الاعتراف الجماعي بسقوط الإنسان أمام إغراء السلطة والمال .. إنها ليست قصة رجلٍ منحرف .. بل مرآة كاشفة لعصرٍ اختلطت فيه الشهوة بالسياسة .. والسرّ بالابتزاز .. والضعف الإنساني بالتخطيط الاستخباري .
إبستين لم يكن مجرّد ثريٍّ غامض بل شبكة خيوطٍ تمتدّ من قصور الحكم إلى أقبية الاستخبارات .. كان يفهم البشر أكثر مما يفهم نفسه !! يعرف كيف يصنع من اللذة فخًّا .. ومن الثقة خيانة .. ومن الصورة سلاحًا لا يصدأ .. لقد تحوّل الجسد عنده إلى وسيلة نفوذ ، وتحولت الرغبة إلى وثيقة تجنيد .
في التاريخ لطالما كان الانحراف وجهًا آخر للانهيار السياسي .. من قصور روما إلى بلاط فرنسا إلى قصور الشرق .. إلى فضائح الحرب الباردة التي أطاحت بوزراء وجواسيس ، يتكرر المشهد ذاته : حين يختزل المسؤول الوطن في ذاته، ينهار الاثنان معًا .
قضية إبستين ليست جريمة شذوذ في الغرب فقط .. بل نموذجٌ عالميّ للابتزاز الأخلاقي الممزوج بالاستخبار .. قيل إن خلفه أجهزةً استخباراتية وجماعات نفوذ استخدمت صورته كواجهةٍ ناعمة لعملٍ خشن !! وأن تسجيلاته كانت أكثر قيمة من أي وثيقة سياسية .. لقد فتح الباب أمام حقبةٍ جديدة من “الحروب الناعمة القَذِرة ” ، التي لا تُخاض بالسلاح فقط بل بالفضيحة .
السؤال الأهم : كيف يقع أصحاب المناصب في هذا المستنقع ؟ الإجابة لا تكمن في الجهل ، بل في الوهم .. وهمُ الحصانة ، ووهمُ السيطرة ، ووهمُ أن المنصب يُعفي صاحبه من القانون والضمير .. وفي اللحظة التي يصدق فيها ذلك الوهم ، يصبح هدفًا أسهل من أي عدوٍّ خارجي .
ما جرى في الغرب يمكن أن يتكرر في أي مكان .. النخب العربية ليست بمنأى عن الخطر ذاته .. فيها من الغرور ما يكفي .. ومن الغفلة ما يثير القلق .. يُسافر بعضهم دون تدقيق .. يقبل الدعوات بلا وعي، يتعامل مع الإغراء وكأنه “استحقاق مَكانة ” لا اختبار وطنية .. ثمّ حين يسقط أحدهم يُدرك متأخرًا أن الابتسامة التي أغوته كانت رصاصة صامتة .
لهذا فإن حماية الأمن الوطني لا تبدأ عند الحدود .. بل في عقل كل مسؤول .. لا بد من دوراتٍ أمنية إلزامية .. وثقافةٍ مستمرة تُدرّس في المكاتب قبل الجامعات .. من لا يعرف كيف يرفض الإغراء لن يعرف كيف يرفض الابتزاز .. ومن يظن أن شرف المنصب يُغنيه عن شرف السلوك فليتأمل مصير الذين مرّوا في طريق إبستين وسقطوا فيه .
قصة إبستين لم تنتهِ بموته الغامض !! بل مِنْ هُناكَ بدأت .. لقد ترك وراءه حبلًا طويلًا كلّ من يظن نفسه فوق الخطأ سيتعثّر به .. ذلك الحبل لا يخنق الأفراد فقط بل قد يجرّ الكثيرين — من النخب والسياسيين — إلى قاعٍ لا خلاص منه إلا بالوعي والضمير .
المحامي فضيل العبادي