مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في أواخر هذا العام، تشير استطلاعات الرأي إلى احتمال فوز دونالد ترامب بالرئاسة مرة أخرى.
عودة دونالد ترامب المحتملة إلى سدة الرئاسة قد تجلب شعوراً بالاضطراب في الشرق الأوسط
ونظراً للتأثير المضطرب لولايته السابقة، يثير هذا الاحتمال شواغل كبيرة في الشرق الأوسط، حيث ساهم نهجه المميز، الذي اتسم بالدبلوماسية الشخصية غير الرشيدة وتصريحاته الارتجالية، في عدم الاستقرار الإقليمي.
وعلى الرغم من التغيرات التي شهدتها المنطقة خلال غيابه، فإن عودة ترامب المحتملة تشكل تحديات فريدة من نوعها، حسب حاسم تكينس، مسؤول سابق في وزارة الخارجية التركية. ويزداد “تأثير ترامب” على العلاقات الدبلوماسية تعقيداً بفعل التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين، فقد تجبر نبرة ترامب المباشرة والاستفزازية دول الشرق الأوسط على الانحياز إلى أحد الجانبين، وربما تتسبب في تفاقم الصراعات. ومن حسن الحظ أن الأطراف الفاعلة الإقليمية أكثر اعتياداً على أسلوب ترامب الفريد من نوعه، وتتمتع بعلاقات دبلوماسية أفضل. لكن عودة ترامب يمكن أن تكون لها تداعيات كبيرة على الشرق الأوسط؛ إذْ ما زالت الولايات المتحدة هي الفاعل الأقوى في المنطقة، برأي الكاتب في موقع مجلة “ناشونال إنترست”.
موقف ترامب من إيران
يقول الكاتب إنه لم يكن نهج ترامب تجاه الشرق الأوسط مختلفاً كثيراً عن نهج أوباما أو بايدن. فوجود أمريكا العسكري في المنطقة، وسياساتها المعنية بمكافحة الإرهاب، ودعمها للحلفاء الإقليميين، كلها قضايا انتهج الرؤساء الثلاثة إزاءها سياسات متماثلة. وأما الموقف الذي اختلف فيه ترامب فكان بشأن إيران، التي سعى إلى احتوائها اقتصاديّاً ودبلوماسيّاً، على عكس أوباما وبايدن اللذين حاولا التوصل إلى اتفاق دبلوماسي مع طهران بشأن برنامجها النووي. لكن حتى مع هذا الاستثناء، كان الرؤساء الثلاثة يهدفون، على الأقل نظرياً، إلى تقليل البصمة الأمريكية في المنطقة.
ومع ذلك كان تعامل ترامب مع مشاكل المنطقة مختلفاً اختلافاً جذريّاً. فأغلب القضايا في الشرق الأوسط تتطلب حنكة سياسية تحافظ على توازن دقيق بين المصالح في غياب حلول واضحة ونهائية. وكان ترامب يتصرف برعونة، حيث مارس دبلوماسية شخصية، لم يكن محتواها معروفاً للدبلوماسيين الأمريكيين، بل وأحياناً لدائرته الداخلية، وكان يقدم وعوداً متضاربة لمختلف القادة، وكان يدلى بتصريحات عشوائية، ويتخذ خطوات غير متوقعة وراديكالية.
ومع عدم مبالاته بقضايا لا تتعلق بالمصالح الاقتصادية الأمريكية مباشرة، أعطى ترامب انطباعاً بأن القيادة الأمريكية في المنطقة في حالة سقوط حر. وعلى هذا النحو أذكى نيران أزمات في المنطقة. وإعادة انتخابه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 لن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء في الشرق الأوسط، حيث شهدت المنطقة تغيرات كثيرة في غيابه عن واشنطن، وأصبح زعماء الشرق الأوسط أكثر اعتياداً على شخصيته وأسلوبه الفريدين من نوعهما، لكن هذا ربما لا يكون كافياً.
فعندما وصل ترامب إلى البيت الأبيض سنة 2017، كانت المنطقة مبتلاة بالفعل بالإرهاب، والحروب الأهلية، والتنافس بين القوى المتوسطة. وعلى الرغم من أنه لم يغير السياسات الأمريكية بشكل كبير، إلا أن “أسلوبه الفريد والمُزعزِع” كان له تأثيراً تأجيجياً على المنطقة.
ويدير ترامب العلاقات الدبلوماسية من خلال الاتصالات الشخصية، غالباً دون إحاطة وزارة الخارجية ومساعديه علماً بمجريات الأمور، وهذا بطبيعة الحال يروق لزعماء الشرق الأوسط، الذين يحبون تصريف الأعمال من خلال الاتصالات الشخصية، لكن الدبلوماسية الشخصية يمكنها أن تسفر عن تناقضات في السياسات.
والأهم من ذلك، برأي الكاتب، أن شخصاً متقلباً كترامب يمكنه أن يعطي، قصداً أو دون قصد، انطباعات مربكة أو وعوداً ملتبسة. ففي 2019، تبادل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رسائل مع ترامب، وحصل على ضوء أخضر جزئي لشن عملية عسكرية جديدة ضد الأكراد، وهي عملية تتعارض مع السياسات الأمريكية المعلنة. واعتقاداً منهم أنهم أقنعوا ترامب بحججهم، اتخذ قادة شرق أوسطيون خطوات محفوفة بالمخاطر ومزعزعة للاستقرار.
ويمكن أن تشكل تصريحات ترامب الارتجالية خطورة بالغة على الاستقرار والدبلوماسية. فكان لتهديداته بشل الاقتصاد التركي أيضاً تأثيراً مدمراً على تركيا.
تنافس القوى العظمى
ووفق الكاتب، يمكن لاحتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين أن يلفت انتباه ترامب بطريقة خطيرة جدّاً. فالتنافس بين القوى العظمى، سواء في القرن التاسع عشر أو إبان الحرب الباردة، كانت له دائماً تداعيات خطيرة في الشرق الأوسط. ومع تنامي نفوذ الصين السياسي في المنطقة، ربما يتبنى ترامب نهج “إما أن تكون معنا وإما ضدنا”. ومن الممكن أن يؤدي هذا التنافس إلى استقطاب المنطقة وخلق تكتلات جديدة، وتحويل الصراعات المجمدة إلى مواجهات مسلحة.
كانت بكين ولسنوات مجرد شريك اقتصادي وغير مهتمة بالمشاكل السياسية في المنطقة. وفي الآونة الأخيرة، زادت الصين نشاطها السياسي في المنطقة. وتستورد الصين أكثر من نصف احتياجاتها من النفط الخام من دول مجلس التعاون الخليجي. كما نفذت الشركات الصينية مشاريع بناء بقيمة 126 مليار دولار في المنطقة.
والأهم من ذلك، يضيف الكاتب، أن الأطراف الفاعلة الإقليمية ترحب بالصين، المعروفة بالتزامها بالاستقرار والوضع الراهن، كقوة عظمى بديلة. وفيما تتحوط القوى الإقليمية لرهاناتها في الصراع على الهيمنة العالمية بين الولايات المتحدة والصين، فإنها تستخدم أيضاً علاقتها المتنامية سريعاً مع الصين كوسيلة ضغط في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
كان دور الوساطة الذي لعبته الصين في التطبيع الإيراني السعودي العام الماضي حدثاً مهمّاً، برهن على قدرة بكين السياسية.
ورداً على تحركات الصين، تهدف إدارة بايدن إلى تعزيز نفوذها التقليدي في المنطقة من خلال الانخراط الدبلوماسي والمشاريع السياسية الاقتصادية. ويدعم بايدن بنشاط التطبيع بين إسرائيل والدول العربية كوسيلة لتعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة. ومن المتوقع أن يسهّل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، كمشروع تاريخي، اندماج المنطقة في النظام السياسي الاقتصادي الغربي. وعلى الرغم من أن هجوم 7 أكتوبر والحرب بين إسرائيل وحماس جمّدا سياسات بايدن إزاء الشرق الأوسط، إلا أنه ركز في الغالب على الدبلوماسية والحوافز الاقتصادية لموازنة النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة.
لكن أسلوب ترامب يمكن أن يكون مباشراً ومستفزّاً بدرجة أكبر كثيراً. ومن خلال التهديدات الصريحة والابتزاز ودبلوماسية الزوارق الحربية، يستطيع إرغام دول الشرق الأوسط على الانحياز إلى أحد الجانبين. ومن الممكن أن يتمخض تنافس القوى العظمى المتصاعد عن خطوط صدع جديدة وتكتلات جديدة. وحتى لو أعيد انتخاب بايدن، فالأرجح أن يزداد التنافس بين الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط. لكن في ظل قيادة ترامب، قد يكون احتواء هذا التنافس وإدارته أكثر صعوبة بكثير.
الشيطان الذي نعرفه
بحلول هذا الوقت، ستكون الأطراف الفاعلة الإقليمية أكثر اعتياداً على ترامب وأسلوبه، وبالتالي يستطيع زعماء الشرق الأوسط التصرف بمزيد من الحكمة في حقبة ترامب الثانية. أولاً: لقد أدركوا أن ترامب ربما لا يدعم أقواله بالأفعال، وهو ما قد يجعلهم يفكرون مرتين قبل السير على خطى ترامب.
ثانياً: أصبحت الأطراف الفاعلة الإقليمية الآن أكثر خبرة في الدبلوماسية الإقليمية والمفاوضات منذ رحيل ترامب عن السلطة. وبالتالي فحتى لو تسببت رئاسة ترامب الثانية في غياب للقيادة في الشرق الأوسط، فقد تنشئ الأطراف الفاعلة الإقليمية آليات إقليمية للمحافظة على الاستقرار.
ويشير تكثيف الدبلوماسية الإقليمية بعد هجمات 7 أكتوبر التي شنتها حماس والحرب في غزة إلى وجود ميل إلى الحوار والتعاون. فمع تصاعد التوترات، أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان محادثات مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. وقام وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بزيارة إلى القاهرة للقاء نظيره المصري. وسافر رئيسي إلى الرياض لحضور قمة منظمة التعاون الإسلامي بشأن الأزمة بين إسرائيل وحماس، والتقى الأمير محمد بن سلمان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وكل هذه الأمور تشير إلى أن الأطراف الفاعلة الإقليمية تريد المحافظة على الوضع الراهن باحتواء وإدارة حالات عدم الاستقرار الإقليمية من خلال الدبلوماسية. وفي هذا الصدد ومقارنة برئاسة ترامب الأولى، قد تتصرف المنطقة بمسؤولية أكبر في رئاسته الثانية.
يقول الكاتب: أصبح زعماء الشرق الأوسط الآن على دراية بنهج ترامب. لكن الدراية لا تعني بالضرورة الإدارة الحكيمة لهذا الوضع. وما زالت الولايات المتحدة أقوى لاعب في المنطقة، مع امتلاكها شبكة هائلة من القواعد العسكرية وأكثر من 40 ألف جندي؛ وبالتالي فعودة دونالد ترامب المحتملة إلى سدة الرئاسة قد تجلب شعوراً بالاضطراب في الشرق الأوسط.