آباء يبيعون أعضاء أبنائهم: وجه آخر للاتجار بالأعضاء

اخبار ع النار-لم يكن الشاب الأردني غيث سليم (اسم مستعار حفاظًا على خصوصيته)، في مطلع العشرينيات من عمره، يتخيّل أن يتحوّل جسده إلى وسيلة للنجاة من ضيق الحال، إذ كان يعمل بجد في محطة غسيل سيارات لدعم أسرته المثقلة بالهموم، ويحلم مثل كثيرين من أبناء جيله بالاستقلال، والوظيفة التي تنتشله من دوامة الحاجة. لكن المسار الذي رسمه في مخيلته انقلب تماما، حينما ضغط عليه والده للموافقة على السفر خارج البلاد وبيع كليته مقابل 13 ألف دينار، بمساعدة من شقيقيه اللذين ساهما في تسريع إجراءات إصدار جواز سفره.
في تركيا، حيث كان من المقرر إجراء العملية، كان شركاء والده بانتظاره، وقد نسّقوا معه مسبقًا جميع التفاصيل. بدأ تجهيز “غيث” للعملية، حتى أنهم لقّنوه ما يجب أن يقوله أمام اللجنة الطبية لإقناعها بأن التبرّع يتم بإرادة حرة، لكن الصدمة وقعت حين استمع إلى تسجيل صوتي أرسله والده إلى السماسرة، يطلب فيه أن تُؤخذ كليتاه وأي عضو آخر يمكن الاستفادة منه مقابل مبلغ مالي. عندها، قرّر غيث أن يغيّر أقواله أمام اللجنة، ما دفعها إلى رفض إجراء العملية.

لكن غيث لم ينجُ من جشع والده، إذ أصرّ الأخير بمساعدة من شركائه، على المضيّ بالصفقة في الهند، حيث تُعدّ الإجراءات أقل تعقيدًا، مقابل مبلغ قدره 25 ألف دينار هذه المرة، وبينما كان غيث يرافق الشاب العُماني المستفيد من العملية في طريق العودة إلى الأردن استعدادًا للسفر إلى الهند، أوقفتهم وحدة مكافحة الاتّجار بالبشر في المطار. وخلال تحقيقات مطوّلة حاول فيها غيث إخفاء الحقيقة، قرّر في النهاية الإفصاح عمّا جرى، وتقدّم بشكوى ضد والده والمتورطين معه، وذلك بحسب ملف القضية رقم 75/2023.
هذه القصة ليست سوى نموذج واحد من حكايات كثيرة تتكشف في الأردن، حيث تتصاعد ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية، مدفوعة بالأزمات الاقتصادية من جهة، وشبكات السماسرة العابرة للحدود من جهة أخرى.

ما الذي يدفع أردنيّين إلى بيع أعضاء أبنائهم؟

تشير الإحصائيات الصادرة عن وحدة مكافحة جريمة الاتجار بالبشر/ إدارة البحث الجنائي في مديرية الأمن العام، والمنشورة في دراسة تحت المجهر 2 لمؤسسة تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، إلى أنَّ قضايا نزع الأعضاء ارتفعت بشكلٍ ملحوظ خلال الأعوام 2022-2023 مقارنة بالسنوات السابقة، لتحتلّ المرتبة الثانية بين قضايا الاتجار بالبشر بمجموع 36 قضية.
ففي عام 2023 سُجّلت 18 قضية شملت 20 ضحية (17 من الذكور و3 من الإناث)، وبلغ عدد الجناة 47 ذكراً، أما في عام 2022 فقد رُصدت 10 قضايا شملت 12 ضحية من الذكور، تورّط فيها 29 جانياً من الذكور، وفي عام 2021 سُجّلت 7 قضايا كان ضحاياها 6 ذكور وأنثى واحدة، مقابل 11 جانياً من الذكور وجانية واحدة، فيما لم يشهد عام 2020 سوى قضية واحدة كان ضحيتها شخصًا واحدًا وشارك فيها 4 من الجناة الذكور.
ولا يمكن فصل هذه الأرقام عن السياق الاجتماعي والاقتصادي الأوسع، إذ تُظهر دراسة “تحت المجهر 2” أن ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، إلى جانب ضعف الوعي القانوني بمخاطر هذه الجريمة الصحية والحقوقية، يُسهم في تغذية هذا النمط من الاستغلال. ووفقًا لأحدث بيانات دائرة الإحصاءات العامة لعام 2024، بلغت نسبة الفقر في الأردن نحو 15% من السكان، فيما وصل معدل البطالة إلى 21.4%، مع تفاوت ملحوظ بين الجنسين والمستويات التعليمية، إذ بلغت البطالة بين الذكور 18.2%، مقابل 34.7% بين الإناث، وسجلت 25.8% بين حملة الشهادات الجامعية، لترتفع إلى 37.9% بين من لم يكملوا المرحلة الثانوية.

ويستدلّ الباحث الاجتماعي ومؤسس مركز إدماج للرعاية اللاحقة للسجناء عبد الله الناصر على ذلك بالتقرير الإحصائي الجنائي لعام 2024 الصادر عن إدارة المعلومات الجنائية في مديرية الأمن العام الأردني، والذي يُظهر أن إجمالي الجرائم المسجّلة خلال العام بلغ 23,982 جريمة، بزيادة قدرها 5.26% مقارنة بالعام السابق، وتمركزت الجرائم في العاصمة عمّان تلتها إربد ثم الزرقاء، فيما شكّلت جرائم السرقة النسبة الأعلى بنحو 30% من إجمالي الجرائم، تلتها الاحتيال وإساءة الأمانة، ويُشير الناصر إلى أنّ الفئة العمرية ما بين 18 و30 عامًا هي الأكثر تورطًا في هذه القضايا، ومعظمهم من العاطلين عن العمل، ما يعكس العلاقة المباشرة بين الضيق الاقتصادي وتصاعد السلوك الإجرامي.
غير أنَّ أخطر ما تكشفه هذه المؤشرات، وفق الناصر، هو انزلاق بعض الأسر إلى أشكالٍ جديدة من الجريمة تتجاوز المال إلى الجسد ذاته، كما في حالات بيع الأعضاء البشرية التي بدأت تتسرّب إلى المجتمع تحت ضغط الحاجة واليأس. ويرى أن تزايد الضغوط المعيشية دفع بعض الشباب إلى البحث عن أي مصدرٍ للدخل، مهما كانت وسيلته أو قانونيّته، إلا أن المأساة تبلغ ذروتها حين يُقدِم شاب على بيع أحد أعضائه بإيعازٍ من والده، في انقلابٍ على الدور التقليدي للأب بوصفه السند والحامي. ويصف النّاصر هذا التحوّل بأنّه “علامة مقلقة على اهتزاز منظومة القيم تحت وطأة الفقر واليأس.”
ولفت إلى أنَّ أسباب الجريمة لا ترتبط بالعامل الاقتصادي وحده، إذ إنّ الفقر والبطالة لا يشكّلان سوى أحد العوامل المؤدّية إليها، حين تجتمع مع أسبابٍ أخرى مثل رفاق السوء أو التصدّع الأسري. وأكّد أن هذه الحالات تختلف باختلاف الأفراد وظروفهم، غير أنّ من يعيشون تحت ضغطٍ اقتصادي واجتماعي خانق يكونون أكثر عرضةً للانحراف، ولا سيما في ظلّ ما وصفه بأنّه “ظرف عام سيّئ يعيشه المجتمع الأردني اليوم.”

صفقات بيع الأعضاء

لا يبدأ الطريق إلى بيع الأعضاء في الغالب داخل المستشفيات أو العيادات، بل خلف الشاشات، فبحسب المحامية المُتخصِّصة بالقضايا العمالية وجرائم الاتِّجار بالبشر أسماء عميرة وتعمل في جمعية تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، وكذلك ما توثقه ملفات القضايا التي اطلعت عليها معدة التقرير عبر موقع قسطاس، كانت وسائل التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها موقع فيسبوك، المدخل الأكثر شيوعا لعقد صفقات مع سماسرة يبحثون عن أشخاص لديهم الرغبة في بيع أعضائهم مقابل مبالغ مادية يتفق عليها لصالح مرضى يحتاجون ذلك العضو، على أن تجرى العملية في بلدان مثل تركيا التي تتصدّر المشهد، إذ يتيح قانونها التبرع بالأعضاء دون اشتراط القرابة، ما جعلها محطة رئيسية في هذا المسار، وليس في الأردن لأن زراعة الأعضاء تجرى ضمن شروط يحددها قانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان الصادر عام 1977، والذي يمنع الاتجار بالأشخاص وبيع الأعضاء ضمن أي عملية استئصال تجري خارج القانون وتعرّض صاحبها الذي يحتاج لمتابعة قبل وبعد العملية لمخاطر ومضاعفات صحية.
وبحسب رصد أجرته معدة التقرير، تنتشر إعلانات تُصاغ بعبارات مُغرية تستهدف الفقراء والباحثين عن أي منفذ مالي، مثل “أعضاء للبيع بمقابل مادي”، عندها يظهر السماسرة، يتحدثون بلهجة ودودة، يُقدّمون وعودا بالثروة السريعة، ويُقنعون الضحية بأن الأمر بسيط وآمن، بل ويطمئنونه بأنهم سيتكفّلون بجميع نفقات السفر والإجراءات الطبية، لكن هذه الوعود سرعان ما تتحول إلى مصيدة، ولا يحصل الضحية دائما على مستحقاته. كثيرون اكتشفوا، بعد أن أنهكهم مشرط الجراح وأثخنت أجسادهم ندوب العملية، أن الأموال التي وُعدوا بها كانت وهما، وهكذا يتضاعف الاستغلال: جسد مُنهك خسر عضوا منه، ومحفظة فارغة بلا عائد.
وتتكرر هذه القصص في المملكة ودول مختلفة، حيث تُعتبر الكلية العضو الأكثر تداولا في هذه السوق غير القانونية، ويؤكد التقرير العالمي للاتجار بالأشخاص الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) لعامي 2020 و2022 أن مصر شكّلت واحدة من أبرز البؤر لهذا النوع من التجارة، خاصة تجارة الكلى، إلى جانب الهند وباكستان وبنغلادش التي تزدهر فيها “السياحة العلاجية” غير المشروعة، فيما سُجّلت الفلبين أيضًا كأرض خصبة لتكرار هذه الممارسات.
ولم تتوقف التحذيرات عند ذلك، فقد أشار تقرير البرلمان الأوروبي لعام 2022 وتقرير الخارجية الأميركية عن الاتجار بالبشر لعام 2023، إضافةً إلى بيانات منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، إلى أن تركيا لم تسلم من الاتهامات، إذ وثقت حالات استغلال للاجئين في تجارة الأعضاء. أما الصين فقد واجهت مرارًا اتهامات دولية بارتكاب انتهاكات جسيمة تتعلق بنزع الأعضاء القسري من السجناء، ما يجعل الخريطة العالمية لهذه الجريمة أكثر تعقيدًا وتشابكًا.

ما هي العقوبة المُترتِّبة على جريمة الاتِّجار بالبشر؟

في السياق، أشارت المحامية عميرة أنَّ تجارة العائلات بأعضاء أبنائهم يُعتبر ظرفًا مُشدِّدًا حسب المادة 9 من قانون منع الاتجار في البشر وتعديلاته، حيث نصَّت على المُعاقبة بالأشغال الشاقّة المؤقتة مُدِّة لا تقل عن سبع سنوات كحدٍّ أدنى للعقوبة وغرامة لا تقل عن 5 الآف دينار وقد تصل إلى 20 ألف دينار، لاسيما إن كان مُرتكب الجريمة أحد الوصول أو الفروع، أي إذ كان من الأقارب ذو الدرجة الأولى أو ولي ووصي عليه.
وأوضحت أنَّ التعامل مع الضحايا يتم أوَّلًا عبر أخذ إفادتهم وإحالتهم للمُدَّعي العام للتّحقُّق من أنَّهم ضحايا مُصنَّفين بهذه الجريمة، ليتم بعدها إرسالهم لدار الكرامة المُتخصِّصة باستقبال هذا النوع من الضحايا، حيثُ أنَّها أُنشأت بموجب نظام حماية المجني عليهم والمُتضررين من جريمة الاتِجار في البشر التابعة لـوزارة التنمية الاجتماعية.
وأضافت أنَّ الدَّار تُقدِّم جميع الخدمات اللازمة من مأكل وملبس وخدمات نفسية وإجتماعية من خلال تواجد أخصائيين لتقديم الدعم بمختلف مجالاته، إلى جانب تعاونهم مع إحدى منظَّمات المجتمع المدني لتوفيرالمساعدة والتنفيذ القانوني لهم أمام المحاكم حتَّى صدور القرار القطعي، وتقديم الدعم المادّي لهم، فضلًا عن نشر الوعي بالآثار النَّاجمة عن نزع الأعضاء نفسيًا وصحّيًّا ومادّيًّا، وتسليط الضوء على سلبيات الجريمة.
وأكَّدت عميرة على أنَّ الظاهرة تشهد تفاقمًا ملحوظًا بمرور السنوات خاصَّة بعد جائحة كورونا، نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، إذ عبَّرت عن الوضع الحالي بأنَّه “سيّء جدًّا”، منوِّهةً على إلى أنَّه بالرغم من رصد عددٍ كبير من العمليات إلَّا أنَّه قد يكون هناك ما لم يُكتشف بعد.

تقرير كارمن أيمن *
* تم انتاج هذا التقرير ضمن مشروع “تعزيز حقوق العمال المهاجرين ومكافحة الاتجار بالبشر”، نفذه مركز المعلومات والبحوث-مؤسسة الملك الحسين

Read Previous

من أجل التسلية والترهيب.. كيف حولت الدعم السريع القتل إلى لعبة بالفاشر؟

Read Next

افتتاح فعاليات مهرجان التنوع الثقافي في لواء الشونة الجنوبية

Most Popular