
ا.د. نورس شطناوي
ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، يوم الأحد 26 تشرين الأول 2025، خطاب العرش السامي بمناسبة افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين. وكما جرت العادة، جاء الخطاب بمثابة بوصلة وطنية تحدد أولويات الدولة الأردنية للمرحلة المقبلة، وتضع الإطار العام لعمل السلطات والمؤسسات، وتوجّه الجهود نحو خدمة المواطن وتعزيز منعة الوطن. ما يميز خطاب العرش هذا العام أنه كان خطاب مرحلةٍ تحمل عنوان العمل والإنجاز. فقد شدد جلالته على أن الأردن لا يملك رفاهية الوقت، في إشارة واضحة إلى أن الإصلاح لم يعد خياراً بل ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، وأن المطلوب اليوم هو الانتقال من مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ الفعلي على أرض الواقع. هذا التوجه يعكس وعياً ملكياً عميقاً بمتطلبات المرحلة، التي تتسم بتحديات اقتصادية إقليمية ودولية متسارعة، وفي الوقت ذاته تحمل فرصاً كبيرة إذا ما أُحسن استثمارها ضمن رؤية وطنية واضحة المعالم.
جدد جلالة الملك التأكيد على أن رؤية التحديث الاقتصادي هي المشروع الوطني الأوسع الذي يقود الأردن نحو مستقبل أكثر ازدهاراً. ودعا إلى المضي قدماً في تنفيذ المشاريع الكبرى وجذب الاستثمارات وخلق فرص العمل للشباب، مشيراً إلى أن الهدف الأسمى هو تحسين مستوى معيشة المواطن ورفع جودة الحياة في مختلف المحافظات. إن هذه الدعوة تحمل دلالات مهمة، أبرزها أن التنمية الاقتصادية ليست شأناً حكومياً بحتاً، بل هي مسؤولية مشتركة بين جميع مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وفق مبدأ الشراكة والتكامل في تحقيق النمو المستدام .
من أبرز ما شدد عليه الخطاب الملكي أن الإصلاح لا يكتمل دون تطوير أداء القطاع العام. فقد أكد جلالته على ضرورة أن يلمس المواطن أثر الارتقاء بالخدمات، في دعوة صريحة إلى إعادة هيكلة المؤسسات العامة وتحسين أدائها بما يواكب متطلبات العصر ويستجيب لاحتياجات المواطن اليومية في التعليم والصحة والنقل والخدمات البلدية. إن هذه الرسالة الملكية تعني أن الإصلاح الإداري لم يعد شعاراً إصلاحياً عاماً، بل أصبح جزءاً جوهرياً من عملية بناء الدولة الحديثة، التي تُقاس نجاحاتها بمدى ما يشعر به المواطن من تحسن فعلي في الخدمات.ولم يغب البعد السياسي عن خطاب العرش، إذ أكد جلالة الملك على أهمية المضي في استكمال مسارات التحديث السياسي، وتعزيز العمل الحزبي البرامجي، وتمكين الأحزاب من المشاركة الفاعلة في الحياة النيابية. وهذا التأكيد الملكي يرسّخ قناعة راسخة بأن الديمقراطية الأردنية تمر بمرحلة النضج التدريجي، وأن بناء أحزاب وطنية برامجية قادرة على تشكيل حكومات مستقبلية هو الهدف الذي تسعى إليه الدولة من خلال التشريعات والسياسات الجديدة.
جاءت الإشارة إلى الشباب الأردني واضحة ومؤثرة، إذ أكد جلالته أن تمكين الشباب وإشراكهم في مسيرة التنمية والبناء هو ركيزة أساسية لمستقبل الأردن. فالجيل الجديد هو رأس المال الحقيقي للوطن، واستثماره في التعليم، والمهارات، والمشاركة السياسية والاقتصادية هو الاستثمار الأهم والأكثر استدامة. كعادته، لم يغب البعد القومي والإنساني عن خطاب العرش، إذ جدد جلالته التأكيد على الموقف الأردني الثابت تجاه القضية الفلسطينية، ودعم الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه المشروعة، وقيام دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية. كما شدد جلالته على استمرار الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، باعتبارها واجباً تاريخياً ودينياً ووطنياً لا يتزحزح. الخطاب الملكي حمل بين سطوره رسالة واضحة إلى جميع مؤسسات الدولة، بأن المرحلة المقبلة تتطلب وحدة الصف، وتكامل الجهود بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتعاوناً حقيقياً مع القطاع الخاص والمجتمع المدني. فالأردن كما وصفه جلالته دولة قانون ومؤسسات، والنجاح فيها مسؤولية مشتركة لا تحتمل المزايدات أو التقصير. كما أكد جلالته أن محاربة البيروقراطية والفساد وتعزيز الكفاءة والشفافية هي شروط أساسية لأي عملية تحديث ناجحة .
لا شك أن التحديات التي تواجه الأردن كبيرة، سواء في المجال الاقتصادي أو الإقليمي، إلا أن الخطاب الملكي أعاد التذكير بأن في قلب كل تحدٍّ تكمن فرصة. فبإرادة القيادة وإصرار الشعب يمكن تحويل الضغوط إلى دافع نحو البناء، وتحويل الأزمات إلى فرص للنمو والابتكار. الأردن، كما أراده جلالته، يقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها الإنجاز بالعمل، والانتقال من الأقوال إلى الأفعال، ومن الوعود إلى النتائج الملموسة التي يشعر بها المواطن في حياته اليومية. إن خطاب العرش السامي لهذا العام كان إعلاناً عن مرحلة جديدة من العمل الممنهج، تُبنى على رؤية واضحة، ومتابعة دقيقة، وشراكة وطنية شاملة. جلالته رسم خريطة طريق واضحة، وعلى الجميع – حكومةً وبرلماناً ومجتمعاً – أن يسيروا في الاتجاه ذاته نحو أردن قوي مزدهر، تسوده العدالة، ويعلو فيه صوت العمل على كل ما عداه.