
أصابت الحكومة …
بينما تتسارع التصريحات والمقترحات حول تشكيل “قوة دولية” للإشراف على التهدئة في غزة ، طُرِحَ اسم الأردن — إلى جانب دول عربية أخرى — كمرشّح محتمل للمشاركة في هذه القوة !! الفكرة تبدو للوهلة الأولى خطوة إنسانية لضمان الأمن وإعادة الإعمار، لكنها في عمقها تطرح سؤالًا وجوديًا للأردن : هل المشاركة في مثل هذه القوة يصبّ في مصلحته الوطنية وَهَل ذلك يُخلخل مكانته التاريخية كوسيطٍ نزيه وحارسٍ للشرعية العربية ؟ .
الحقيقة أن الأردن بحكم موقعه وتاريخه وارتباطه العضوي بالقضية الفلسطينية ، لا يستطيع النظر إلى غزة بعينٍ أجنبية .. فدم الجغرافيا والسياسة بين الضفتين لا ينفصل .. ومع ذلك فإن أي وجود عسكري أردني داخل غزة — تحت مظلة دولية أو غيرها — سيضعه في مأزق سياسي وأخلاقي بالغ الحساسية .. فالميدان الغزّي اليوم ليس مساحةً آمنة أو واضحة المعالم .. هو حقلٌ مشبع بالدماء والتوتر والذاكرة .. وأي خطوة فيه تحتاج إلى ميزانٍ من ذهب .
المشاركة في قوةٍ كهذه — حتى لو كانت بنية حسنة — ستُفسَّر من الشارع الفلسطيني والعربي على أنها جزء من مشروعٍ أكبر لتكريس واقعٍ سياسي جديد في غزة وليس حماية لشعبها . وستضع الأردن الذي حافظ لعقود على صورته كدولةٍ ذات موقفٍ قوميٍّ معتدل في موقعٍ يبدو متناقضًا مع وجدان شعبه الرافض لأي وصايةٍ على الفلسطينيين .. فالمقاومة هناك ليست مجرد سلاح بل رمزٌ لهويةٍ وحقٍّ تاريخيٍّ لا يمكن تجاوزه بقراراتٍ دولية .
ثم إن المكاسب المتوقعة من المشاركة ستكون محدودة .. بينما المخاطر مفتوحة على احتمالاتٍ كثيرة !! فلا أحد يضمن أن لا تتحوّل القوة الدولية إلى غطاءٍ جديدٍ لتوغلات إسرائيلية أو إلى أداةٍ لتطويع الواقع الفلسطيني تحت مسمى “الاستقرار” .. وحينها سيُستدرج الأردن إلى معادلةٍ لا رابح فيها : لا كسب سياسي حقيقي أمام العالم ولا رضا شعبي في الداخل ولا ثقة فلسطينية في الميدان .
الأردن أقوى حين يظلّ في موقعه الطبيعي : صوته الموزون في المحافل الدولية وذراعه الإنسانية الممتدة نحو غزة كما كانت دائمًا — مستشفيات ميدانية .. جسور إغاثة .. دعم سياسي ودبلوماسي لا يتبدّل .. هذا الدور الإنساني والسياسي يمنحه احترامًا واسعًا، ويعزّز صورته كدولةٍ تدافع عن الحق دون أن تتورّط في هندسة واقعٍ يرفضه الناس على الأرض .
إن المصلحة الأردنية قبل أن تكون حسابات أمنٍ أو دبلوماسية ، هي مصلحة هويةٍ وضمير . فالأردن لم يكن يومًا دولةً في صَفّ الاحتلال أو تغطيه ، بل ظلّ درعًا للقدس وملاذًا للفلسطينيين . ودخوله اليوم في قوةٍ تُدار بمعايير غامضة قد يُفقده ما بناه من ثقة وشرعية في الوعي العربي ..
لكلّ ذلك الحكمة السياسية تقتضي أن يبقى الأردن حيث يجب أن يكون : قريبًا من فلسطين .. بعيدًا عن مغامرات الميدان ، وفي صفّ الشعوب لا في ظلّ الصفقات .. جاء الموقف الأردني قاطعاً لِكُلّ الشكوك وكالبلسم لكُلّ هذهِ الجروح ” لَنْ يكونَ لنا قوات عسكرية في غزّة ” .
المحامي فضيل العبادي