لماذا يريد إيطاليون محاكمة رئيسة الوزراء بسبب حرب غزة؟

اخبار ع النار-“لقد كان أسطول الصمود هو الشرارة التي أنارت الشُّعلة”. بتلك الكلمات علَّقت أستاذة علوم الاجتماع والسياسة، الإيطالية المرموقة دوناتِللا دِللا بورتا، على المظاهرات المتضامنة مع فلسطين في إيطاليا، يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، التي تجاوز المشاركون فيها مليون شخص.
وأتى ذلك بعد أيام قليلة من مرور طائرة رئاسة الوزراء الإسرائيلية عبر المجال الجوي الإيطالي في طريقها إلى نيويورك كي يحضر بنيامين نتنياهو الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تفادت بعد ذلك الأجواء الإسبانية والفرنسية، نتيجة صدور مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها في غزة، فيما بدا أنه تجاهل من روما للتحرُّكات الدولية ضد دولة الاحتلال.
ورغم أن المظاهرات المتضامنة مع فلسطين قد لفتت الأنظار في إيطاليا دون غيرها، إذ إنها شهدت مظاهرات ضخمة في أكثر من مدينة، مع مشاركة أكبر النقابات العُمَّالية في البلاد، وتجاوز أكثر من مظاهرة مليون متظاهر، فإن الحكومة القائمة عَزَفت عن مجاراة الحالة الاحتجاجية واتخاذ مواقف متفاعلة معها، على عكس إسبانيا مثلا التي شهدت احتجاجات ضخمة، لكن الموقف الرسمي فيها أتى متجانسا مع الموقف الشعبي.
ليست الهُوَّة بين الحكومة والشعب في إيطاليا اتجاه فلسطين غريبة مقارنة بإسبانيا، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التحالف الحاكم الآن في إسبانيا على رأسه الحزب الاشتراكي، المناصر للقضية، في حين أن التحالف الحاكم في إيطاليا تحالف يميني وعلى رأسه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.
أضف إلى ذلك، أن موقف اليسار الإيطالي تاريخيّا كان متقلّبا حيال القضية الفلسطينية، بسبب علاقة العداء بينه وبين الفاشية المُعادية لليهود، التي حكمت إيطاليا بقيادة موسوليني حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
فرغم أن نظام موسوليني تحمس للمشروع الصهيوني في فترة ما، رغبة في منافسة البريطانيين في فلسطين لا غير، فإن الموقف المعروف عن النظام الفاشي في إيطاليا، كحال نظيره الألماني، كان معاداته لليهود، ومن ثم خرج اليسار بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية متعاطفا مع المشروع الصهيوني، ومتأثرا ببعض التجارب اليسارية اليهودية التي شاركت في استيطان فلسطين قبل عام 1948.
في الخمسينيات والستينيات، وفي خضم اهتمامها بدورها في حلف الناتو الوليد، ومواجهة خطر الاتحاد السوفياتي، ساد إجماع منحاز لإسرائيل التي اعترفت بها روما عام 1950، لم تتخلله إلا انتقادات بسيطة لمبادرة إسرائيل بالهجوم على العرب عام 1956 وتواطئِها مع أهداف استعمارية.
لكن، وبعد حرب عام 1967، ومع تنامي أهمية منظمة التحرير الفلسطينية، تزايد تضامن اليسار في إيطاليا مع فلسطين، وانعكس ذلك في موقف مؤيد نسبيا لنشأة دولة فلسطينية، لا سيَّما بعد أن شهدت إيطاليا ذاتها عمليات لمنظمة التحرير الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية.
بعد صعود بنّيتو كراكسي، زعيم الحزب الاشتراكي، رئيسا للوزراء في الثمانينيات، وصل التضامن الرسمي الإيطالي مع القضية الفلسطينية إلى ذروته، حتى أن إيطاليا رفضت تسليم فلسطينيين من منظمة التحرير مطلوبين في الولايات المتحدة بعد أن شاركوا في خطف سفينة أميركية وقتل مواطن أميركي.
في الأخير، انحسر التضامن وانتهى مع نهاية الحرب الباردة ومشاركة منظمة التحرير ذاتها في عملية السلام، ولم يظهر تأثير كبير لفلسطين في الساحة السياسية الإيطالية، حتى عملية طوفان الأقصى، التي اندلعت بعد أشهر من وصول ميلوني إلى السلطة، ويبدو أن التضامن الشعبي الهائل مع غزة هو أشد تحدٍّ تواجهه شرعيتها في البلاد.

ميلوني تحت الضغط
في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خرجت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني في مقابلة تلفزيونية مع قناة “راي 1” الإيطالية.
لم يكن اللقاء ولا تاريخه الذي انعقد فيه ليمرَّا دون ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي الإيطالية، أتت انعكاسا لاضطرابات أوسع أثرا في الأيام الأخيرة، حيث امتلأت الشوارع الإيطالية بمظاهرات رافضة للحرب الإسرائيلية على غزة، ولاعتراض جيش الاحتلال الإسرائيلي أسطول الصمود الإغاثي الذي كان مُتَّجها إلى القطاع المُحاصَر.
أحدثت الضجة بالأساس تصريحات ميلوني، التي أعلنت أنها مُستهدفة بتهمة التواطؤ في حرب الإبادة الجماعية، التي شنَّها جيش الاحتلال في قطاع غزة، رِفقة وزير الدفاع في حكومتها غيدو كروسيتو، ووزير الخارجية أنطونيو تاياني، والمدير العام لشركة ليوناردو للصناعات، التي تعمل في مجالات الطيران والدفاع.
وقد أعدَّت هذه الشكوى التي رُفِعَت إلى محكمة الجنايات الدولية مجموعة محامين وقانونيين من أجل فلسطين، نتيجة الدور الذي أدّته حكومة ميلوني في دعم حرب جيش الاحتلال على غزة، وإمدادها جيش الاحتلال بأسلحة فتاكة بحسب الشكوى، التي تعني فعليا أن الحكومة الإيطالية كانت شريكة في جرائم الحرب التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في القطاع.

أثارت الشكوى اندهاش ميلوني، وقد اعتبرتها من أغرب الدعاوى في التاريخ على حدِّ تعبيرها، لكن الكثير من الإيطاليين لا يُشاطرونها الرأي.
إذ يُمكِن بسهولة لمن يعيش في إيطاليا أن يُدرِك حقيقة استيعاب التيار السائد في الشعب الإيطالي لحقيقة الاحتلال الإسرائيلي التي كانت محجوبة عن قطاع واسع فيه من قبل، وهو ما تثبته المظاهرات والإضرابات الاستثنائية التي شهدتها مختلف المدن الإيطالية دعما ونصرة للقضية الفلسطينية.
وعلى النقيض، أصبح أي رأي يساند دولة الاحتلال رأيا منبوذا على الصعيد الشعبي، ومع ذلك، لم تدخر الحكومة الإيطالية جهدا في دعم دولة الاحتلال الإسرائيلي والوقوف بجانبها، مما خلق في نهاية المطاف وضعا غريبا ومتكررا في الكثير من البلاد الغربية، حيث تتجه حكومات الدول في طريق مُعاكِس لرغبات ورؤى شعوبها، في مشهد يضرب جوهر الديمقراطية في مقتل، ويجعل تلك الحكومات في خصومة مع شعوبها، على الأقل في ما يتعلق بسياستها الخارجية.

فلسطين تشعل ثورة إيطالية
يقول فرانشيسكو بييترو (اسم مستعار)، وهو أحد الشباب الإيطاليين الذين شاركوا بقوة في المظاهرات الأخيرة في إيطاليا ورفض ذكر اسمه بسبب التخوفات الأمنية، إن تلك الموجة الأخيرة من المظاهرات الضخمة بدأت يوم 22 سبتمبر/أيلول الماضي، وبعد ذلك شهدت البلاد مسيرات كبيرة يوميا منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهو اليوم نفسه الذي اعتُقِل فيه أعضاء أسطول الصمود.
وقد استمرت تلك المسيرات حتى 4 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ثم جاءت أحدث المظاهرات يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بعد اعتقال طاقم أسطول الضمير الذي انطلق من إيطاليا.
وكانت أكبر المظاهرات تلك التي انطلقت يوم 22 سبتمبر/أيلول الفائت في روما وشارك فيها 300 ألف شخص، علاوة على مظاهرة 3 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وهي الإضراب الوطني العام الذي شارك فيه مليونا شخص عبر 100 مدينة إيطالية، ومظاهرة 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري في روما التي شارك فيها مليون شخص.
وقال فرانشيسكو إن المظاهرات العفوية التي حدثت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، رغم صغر حجمها، فإنها اللحظة التي شعر فيها وكأن شيئا ما قد تغيَّر، حيث اندفع آلاف الأشخاص إلى الشوارع في غضون ساعتين من اختطاف الأسطول.
ومنذ ذلك الحين، ومع تزايد عدد المشاركين، كانت المظاهرات مُفعمة بالمشاعر القوية، مع الحزن والتعاطف الكبيريْن مع الشعب الفلسطيني، والغضب العارم من الظلم الفادح والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق فلسطين، ورفض تواطؤ الحكومة الإيطالية في هذه الفظائع.
في الوقت نفسه، كانت هناك سعادة بالتكاتف في النضال من أجل العدالة، ففي السنوات الأخيرة بعد الجائحة، كانت المظاهرات التي جمعت أعدادا مماثلة من المشاركين في إيطاليا نادرة جدا، ولم تستمر أكثر من 3 أسابيع.
من جهة أخرى، أشارت صوفيا كوكارو (اسم مستعار)، التي تعمل في السلك الدبلوماسي الإيطالي ولذلك فضَّلت عدم ذكر اسمها، إلى إعجابها بتلك المظاهرات الاستثنائية التي شاركت فيها.
فقد كانت مظاهرات ضخمة وسلمية منتشرة في العديد من البلدات والمدن المختلفة، وتذكر صوفيا هنا سِمَتيْن مُهمتيْن للمظاهرات، أولاهما أنها كانت مظاهرات عابرة للأجيال، حيث شارك فيها المسنّون والشباب يدا بيد، وثانيهما أن تلك المظاهرات الضخمة جاءت بعد سنوات سادت فيها العدمية والشعور باستحالة تغيير أي شيء. ولذا كانت تلك المظاهرات أشبه بعودة الروح بعد سنوات من العزوف عن الشأن العام.
ولم تختلف المعلومات التي ذكرتها الصحف العالمية عما حدث في إيطاليا عن أقوال المشاركين في المظاهرات الذين تواصلنا معهم، فبحسب وكالة الأنباء الأميركية أسوشيتد برس، تظاهر بالفعل أكثر من مليوني شخص يوم الجمعة 3 أكتوبر/تشرين الأول الحالي في أكثر من 100 مدينة إيطالية في إضراب عام ليوم واحد دعما للقضية الفلسطينية وقطاع غزة، إذ أعلنت النقابات الإيطالية الإضراب بعد ما فعلته القوات البحرية لدولة الاحتلال بأسطول الصمود العالمي.
وذكرت أسوشيتد برس أن هذا الحدث ساهم في اندلاع احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء العالم، لكن ما حدث في إيطاليا كان استثنائيا، عِلما بأن متوسط المشاركة الوطنية في الإضراب من أجل غزة بلغ نحو 60% متسببا في شل جميع الخدمات الرئيسية في البلاد وعلى رأسها المدارس والمواصلات في ذلك اليوم.
كما وصلت احتجاجات الشارع الإيطالي إلى حد تجمهُر المتظاهرين أمام أبواب مركز تدريب المنتخب الإيطالي لكرة القدم للمطالبة بإلغاء مباراة الفريق الإيطالي مع منتخب دولة الاحتلال في تصفيات كأس العالم، وقد رفع المتظاهرون لافتات كُتب عليها “علينا أن نوقف الصهيونية بالمقاومة”.
ذكرت الأمر نفسه مجلة جاكوبين، المجلة الأميركية اليسارية، مؤكِّدة استثنائية الحدث، إذ خرج مليونا شخص إلى الشوارع الإيطالية وأغلقت الطرق ومحطات السكك الحديدية والطرق الدائرية والطرق السريعة والجسور والمطارات من أجل الضغط بأقصى درجة على حكومة جورجيا ميلوني لإيقاف دعمها لدولة الاحتلال.
وبحسب المجلة الأميركية فإن تعليقات من قبيل “يا إلهي لم أر مسيرة مثل هذه في البلاد منذ 20 عاما” كانت تسمع بكثرة في المدن والبلدات الإيطالية أثناء المظاهرات.
في الواقع، وصل مستوى الغضب الإيطالي من دولة الاحتلال إلى حد أن دورية من عملاء الموساد كانت تراقب وصول المنتخب الصهيوني للأراضي الإيطالية في مباراة كرة القدم المرتقبة بين فريقي البلدين، بحسب صحيفة جازيتا الإيطالية، في ظل محاولة السلطات الإيطالية تجنُّب تواصل المنتخب مع العالم الخارجي في ظل الغضب الشعبي من دولة الاحتلال، بحيث يتم استقبال الفريق في مطار رونشي دي ليجيوناري، ومرافقته إلى منشأة سرية تحت حراسة أمنية مشددة على مدار الساعة إلى حين مغادرة المنتخب الأراضي الإيطالية.
وحينها فقط تتنفس الحكومة الإيطالية الصعداء بحسب تعبير صحيفة جازيتا الإيطالية، وربما تعطي هذه الإجراءات والتوترات لمحة عن حجم إدراك السلطات الإيطالية لمدى سخط شعبها على دولة الاحتلال، رغم محاولات بعض ممثلي السلطة في الأيام الأخيرة التقليل من شأن المظاهرات.
تتوافق تلك الأحداث التي شهدتها إيطاليا في الأسابيع الماضية مع ما تؤكده الإحصاءات العامة، فبحسب استطلاع رأي أجرته قبل 3 أشهر مؤسسة يوجوف يوروتراك، فإن الدعم والتعاطف الشعبي مع دولة الاحتلال بلغ أدنى مستوياته في دول أوروبية متعددة من ضمنها إيطاليا، إذ كان فقط 13-21% من المشاركين في هذا الاستطلاع هم من يعبرون عن وجهة نظر إيجابية تجاه دولة الاحتلال مقارنة بنسبة 63-70% كانت لديهم وجهة نظر سلبية.
وعلى جانب آخر، ووفق استطلاع ثانٍ أجرته وكالة أنباء ديري الإيطالية فقد كان 62% من الإيطاليين يرون أن على الحكومة الإيطالية حماية المواطنين الإيطاليين على متن أسطول الصمود العالمي المتجه إلى غزة سواء بالدبلوماسية أو من خلال السفن العسكرية الإيطالية.

وقد أظهر الاستطلاع أن 72% من الإيطاليين كانوا يؤيدون مبادرة أسطول الصمود العالمي، وهو ما يمكن أن يوضح مدى تفاعل الإيطاليين مع القضية الفلسطينية على عكس حكومتهم.
في الواقع، أثار التضامن الواسع الإيطالي مع فلسطين استفزاز الإعلام الإسرائيلي، إذ قال أحد كتاب الرأي في صحيفة هآرتس العِبرية إن المتظاهرين الإيطاليين بأعدادهم الغفيرة صوَّروا إسرائيل وكأنها مصدر كل شرور العالم، وتجاهلوا كل انتهاك آخر للحقوق في البلدان الأخرى.
وبحسب المقال فإن “المتظاهرين يرون غزة مصدر المعاناة العالمية، والإسرائيليين هم مصدر كل شر، وأمام هذا الخيار الثنائي، لا ينبغي أن يقف المواطن الإيطالي الطيب صامتا، وقد كانت صورة رجال الإطفاء الإيطاليين وهم ينحنون للعلم الفلسطيني هي الانعكاس البصري الأبرز لهذا المزاج السائد، وحالما تُطبَّق هذه النظرية الأخلاقية عمليا، فإن المطلوب من كل إيطالي هو مقاطعة صارمة ونبذ أي شيء يُشتبه في كونه إسرائيليا”.
يوضح هذا المقال مدى إدراك وسائل الإعلام العبرية لحجم التعاطف الإيطالي مع فلسطين، ومدى شعورها بالحنق على حالة التضامن مع غزة.

دولة تعاند شعبها
لا عجب في أن جورجيا ميلوني انتقدت الإضراب الإيطالي حتى قبل أن يبدأ، مُتوقعة أن يُحدِث اضطرابات واسعة، إذ قالت إن الحراك له دوافع سياسية ويستهدف حكومتها المستقرة لا أكثر، وإنه لن يعود بالنفع على الشعب الفلسطيني، وإنما سيُسبِّب مشاكل للشعب الإيطالي، كما أنها سَخِرت من الإضراب واصفة إياه بأنه ذريعة من النقابيين لقضاء إجازة آخر أسبوع طويلة فحسب.
لكن كل هذا لا يُغيِّر من الواقع شيئا، فميلوني التي تتمتع حكومتها باستقرار ونسبة قبول واسعة في الشارع الإيطالي، وهو أمر استثنائي في تاريخ السياسة الإيطالية التي اتسمت دوما بعدم الاستقرار، قد رأت بعينها مظاهرات حاشدة غير مسبوقة ضد سياسة حكومتها الداعمة لدولة الاحتلال، وهي تستطيع أن تتلمس بوضوح حجم الغضب الشعبي من تأييد حكومتها للإبادة، كما أن علاقتها بدولة الاحتلال لم تعُد عليها بالكثير من النفع وسبَّبت لها الكثير من الضرر.
وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية فإن استطلاعات الرأي الأخيرة لا تُوضِّح الدعم القوي بين الإيطاليين للقضية الفلسطينية فحسب، بل توضح أيضا أن نسبة كبيرة من مؤيدي ميلوني نفسها أصبحوا يميلون لدعم القضية الفلسطينية.
بمعنى آخر، فإن ميلوني أصبحت ترى أن تلك القضية تحديدا صارت عابرة للمعسكرات السياسية، وهي وحكومتها ومعهم قلة من أقصى اليمين المتطرف هم فقط من يتخذون موقفا داعما لإسرائيل رغم كل محاولاتها إظهار قدر من التوازن لامتصاص الغضب الشعبي، حتى أنها اضطرت بعد المظاهرات الضخمة إلى الإعراب عن احترامها للمظاهرات، وعن امتعاضها في الوقت نفسه من بعض حالات الشغب التي حدثت في المظاهرات، بحسب النسخة الإيطالية من موقع هاف بوست.
في الواقع، كانت ميلوني حتى الأشهر الأخيرة، وقبل أن تشتعل الأمور إلى هذا الحد في البلاد، قد أدركت إلى أي مدى تضاءلت شعبية دولة الاحتلال في بلادها. ومن ثم حاولت أن تُغيِّر خطابها، فبدأت تنتقد عمليات جيش الاحتلال وقالت إنها تجاوزت الحدود، وصرَّحت بأن بلادها منفتحة على الاعتراف بدولة فلسطينية، لكن وفق بعض الشروط والتحفُّظات.
ولكن على أرض الواقع، كانت ميلوني تنتهج سياسة مخالفة لتطلُّعات شعبها، بل وتطلُّعات قطاع واسع من قاعدتها الانتخابية، تجاه القضية الفلسطينية.
جدير بالذكر هنا أنه وفقا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، كانت إيطاليا تحت حكم ميلوني إحدى 3 دول فقط صدَّرت الأسلحة التقليدية لدولة الاحتلال بين عامي 2020 و2024، أي حتى بعد الحرب والإبادة في قطاع غزة، وهو أمر تدافع عنه الحكومة الإيطالية بقولها إن شحنات الأسلحة لم تُرسَل إلى دولة الاحتلال إلابموجب عقود وُقِّعَت بالفعل قبل بدء الحرب، كما قالت الحكومة الإيطالية إنها حاولت الحصول على ضمانات بألا تُستخدَم تلك الأسلحة ضد المدنيين في القطاع.
ويبدو أن هناك اقتناعا لدى قطاع من الشعب الإيطالي بأن الأمر لا يتعلق بالحكومة اليمينية فحسب، إذ يقول لنا فرانشيسكو بييترو إن أعضاء البرلمان والحكومة لا يكترثون حقا بما يفكر فيه الشعب الإيطالي، فهدفهم الوحيد هو الدفاع عن مصالح نخبتهم، ثم مصالح من يستطيعون إبقاءهم في السلطة.
ولذا، فالشيء الوحيد الذي يُمكِن فعله بحسب فرانشيسكو هو الاستمرار في الإضراب والاحتجاج حتى يتأثر اقتصاد البلاد سلبا، وعندها سيُجبَر السياسيون على الاستماع لتوجُّهات الناس في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ويقول فرانشيسكو إن الأمر لا يتعلق بكون التحالف الحاكم من اليمينية، فقد كانت مشاركة اليسار البرلماني خجولة للغاية، وقد حاول اليسار النخبوي بحسب تعبيره ركوب الموجة، لكن هذا الاستيقاظ المفاجئ بعد عامين كاملين من الإبادة الجماعية بدأ متأخرا جدا في عيون الجماهير، وبدا أقل بكثير مما ينبغي فعله.

فمن نظَّم الاحتجاجات وشكَّل جوهر الحركة بحسب بييترو هم الجماعات والنقابات اليسارية النشطة، وخاصة عمال الموانئ. ولدى صوفيا كوكارو رأي مشابه، فهي ترى أن دور اليسار في الانتفاضة الإيطالية كان عَرَضيا، كما قالت إنها لا تثق في اليسار تماما مثلما لا تثق في اليمين.

يقول ميكيلا كوليانو، الشاب الإيطالي البالغ من العُمر 29 عاما، والمتخصص في علوم المكتبات، والموظف في شركة اقتصادية بروما، إن هناك مشهدا أهمّ مُتعلِّقا بالشعب ووعيه بالقضية الفلسطينية بعيدا عن التحزبات السياسية، فرغم كونها موضوعا معروفا، لم تكن القضية الفلسطينية يوما محورا للنقاش والحوار السياسي الإيطالي، ربما لأنها كانت تُعَد دائما قضية بعيدة ومعقدة للغاية.

ولكن في هذا العام أتيحت للعالم أجمع فرصة الاطلاع عن كثب على حقيقة الوضع في غزة، ومعرفة كيف عاش الفلسطينيون قبل الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وكيف يعيشون اليوم، وكم كان حلمهم بالمستقبل ضئيلا، ومن ثم أتت المظاهرات الإيطالية ذروة للشعور بالإحباط والعجز تجاه هذا الوضع الطويل والقاسي الذي لا يمكن لأي إنسان تجاهله.
ويؤكد كوليانو عبر ملاحظاته للحياة الاجتماعية في إيطاليا أن الغالبية العظمى من السكان في البلاد الآن تؤيد القضية الفلسطينية، فقد أصبح هذا الموضوع ساخنا وشائعا، بل ويمكننا القول إنه من المستحيل تجاهله.
وحتى على شاشات التلفاز، أصبح من النادر إجراء نقاش مع شخص مؤيد لإسرائيل دون أن يكون لذلك عواقب وخيمة عليه في المستقبل، أو دون إثارة غضب شعبي ضده. وفي وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر بوضوح ارتباط وثيق بين الشعب الإيطالي والقضية الفلسطينية، حتى من أشخاص لا يهتمون عادة بالمسائل السياسية.
رغم كل ذلك، لدى كوليانو والعديد من الإيطاليين الآخرين نظرة تشاؤمية بأنه في غضون بضعة أشهر، سينسى الجميع السلبية الإيطالية الرسمية تجاه القضية الفلسطينية، ولن يتغيَّر شيء في الانتخابات القادمة، حيث ستبقى أحزاب اليسار مرتبكة وضعيفة ومنقسمة، في حين ستتّحد أحزاب اليمين ويزداد اهتمامها بالقضايا الداخلية، مُتجاهِلة القضايا الخارجية.
لكن الواقع أن الأحداث الأخيرة توحي بأن شيئا ما قد تغيَّر بعمق، إذ إن حجم الدعم الشعبي الإيطالي للقضية الفلسطينية إبَّان تلك الحرب سيكون له تأثير طويل المدى، فهو يُعبر عن أهم ما خسرته دولة الاحتلال من طوفان الأقصى، وهو انكشاف الغطاء الأخلاقي عنها في عيون الشعوب الغربية نتيجة الهيمنة الإعلامية.
لعل دولة الاحتلال لا تزال مُطمئنة إلى حقيقة أن النخب الحاكمة في الدول الغربية حليفة لها، بمعزل عن الكراهية الشعبية، لكن تلك الكراهية الشعبية التي جَنَتها دولة الاحتلال على نحو غير مسبوق في العاميْن الماضيَيْن لربما تدفع ثمنهما بعد سنوات، حين تصعد أجيال جديدة كي تتبوأ مقعدها في السلطة في الدول الغربية، وحينها قد تجد دولة الاحتلال نفسها في وضع لا تحسد عليه.

Read Previous

الملك يدعو البابا لاون الرابع عشر لزيارة موقع عمّاد السيد المسيح في الأردن

Read Next

محافظ العقبة: لا إصابات خطيرة في حادثة التسرب الكيميائي

Most Popular