سَنَتان .. كيفَ أصبحنا ؟؟

سَنَتان .. كيفَ أصبحنا ؟؟
يطرح المشهد العربي الراهن سؤالًا مؤلمًا : كيف أمكن لشعوبٍ كانت تملأ الشوارع لأسباب أقلّ مما يجري اليوم في غزة أن تبدو أقلّ حضورًا في التعبير العملي عن تضامنها رغم أنّ التعاطف الإنساني ما زال عميقًا ؟ هذا التناقض بين حرارة الشعور وجمود الفعل ليس تراجعًا في الأخلاق بل هو نتاج ما يسميه علماء الاجتماع والسياسة “التدجين السياسي ” أو ” تآكل الفعل الجمعي” للإفراد .
وعلى امتداد العقود الماضية ولا سيما بعد موجات الربيع العربي تغيّر ميزان الكلفة والمردود للاحتجاج الشعبي في معظم البلدان العربية ، فالتجارب القاسية وما تلاها من تشريعات قَيّدَت الحريات العامة جعلت كلفة النزول إلى الشارع أعلى بكثير من السابق فلم تعد التضحية بالحرية الشخصية أو بلقمة العيش خيارًا مقبولًا عند أغلب الناس كما كان في أوقات سابقة ، كذلك جرى تفريغ المؤسسات الوسيطة التي كانت تاريخيًا محركًا أساسيًا للتعبئة مثل النقابات المهنية والاتحادات الطلابية والأحزاب مِنْ إحساسها بالمعاناة الجمعية الإنسانية … فتضاءلت قدرة الشارع على تنظيم الفعل الجمعي وحلّ محلّهُ فضاء رقمي تسيطر عليه المراقبة والمنع والخوف .. ما عزّز ما يصفه علماء الاجتماع بـ “دوامة الصمت ” ويمكن تعريفها على أنّ الناس يعرِفون أن كثيرين يشاركونهم الغضب والتعاطف لكن كل فرد يتردّد في التعبير العلني خوفًا من العقاب .
كما أنّ الخطاب الديني والإعلامي الرسمي لعب دورًا بارزًا في إعادة تأطير القضايا الكبرى فانتقل التركيز من سردية ” الحق والمقاومة ” إلى سردية ” الواقعية السياسية وحماية الاستقرار ” وهو ما نزع الشرعية الأخلاقية عن الحراك الشعبي وفتح المجال لمظاهر التضامن الرمزي والإغاثي بدلًا من الفعل الجماعي الضاغط .
ويُقابل ذلك ما نراهُ لدى الغرب من قوة التعبير والاحتجاج وإن كانَ ذلك لا يعني بالضرورة تفوّقًا أخلاقيًا على الشعوب العربية بل نتيجة وجود هياكل ديمقراطية ومدنية تتيح للناس ترجمة تعاطفهم إلى احتجاجات وضغط سياسي عبر النقابات والجامعات والحملات الشعبية بالرغم مِنْ تعرضها لقيود متزايدة .. الفارق إذن هو في البيئة السياسية والقانونية لا في وجدان الشعوب .
ولإعادة الجرأة في الطرح والتعبير ضمن الإطار القانوني وبما لا يضر بالمصلحة الوطنية لا بدّ من خطوات متوازنة : فتح هوامش حقيقية للنقاش الحر وتوفير قنوات آمنة للمشاركة المدنية وتشجيع مبادرات شبابية ومهنية تعبّر عن المواقف بوسائل سلمية وراشدة مثل الحملات المجتمعية والمقاطعة المنظمة والنقاش العام القائم على الحجج ، مع تعزيز الثقافة القانونية والإعلامية ليتقن المواطنون كيفية ممارسة حقهم في التعبير دون الانزلاق إلى الفوضى أو خطاب الكراهية .. بذلك يمكن أن تستعيد المجتمعات العربية روحها الحية دون الإضرار باستقرار أو سيادة القانون أو المصلحة الوطنية لكُلّ دولة مِنْ هذهِ الدوَل .
المحامي فضيل العبادي

Read Previous

تثبيت أسعار زيت الزيتون وأجرة العصر لموسم 2025–2026

Read Next

مندوبًا عن الملك وولي العهد… العيسوي يشارك في تشييع جثمان قائد سلاح الجو الأسبق اللواء القضاة

Most Popular