سلط تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية، نشر السبت 6 يناير/كانون الثاني 2024، الضوء على جانب من المأساة التي يعيشها عدد كبير من سكان قطاع غزة، والذين يضطرون إلى العيش لأيام أمام جثث أقربائهم داخل منازلهم، ويجدون صعوبات بالغة في تكريم شهدائهم بدفنهم في ظروف كريمة، بسبب القصف العنيف لجيش الاحتلال الإسرائيلي على مناطق متفرقة من القطاع.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي، اضطر سكان غزة لدفن شهدائهم على عجل ودون مراسم أو طقوس عزاء، وذلك تفادياً لمواجهة نفس مصير أحبائهم.
جثة السبعاوي
ظلت جثة كريم السبعاوي ملفوفة في بطانية داخل شقة باردة فارغة لمدة أربعة أيام، بينما لجأت أسرته إلى مكانٍ قريب.
إذ قُتِلَ أثناء القصف الإسرائيلي المكثف قرب منزل عائلته، بحسب ما ذكره أبواه، وكان من الخطير للغاية أن يخرجا من مكانهما خلال الأيام التالية لدفن طفلهما البالغ من العمر 10 سنوات.
واتصلت عائلته بالهلال الأحمر الفلسطيني طلباً للمساعدة. لكنهم كانوا في الأيام الأولى من الغزو البري الإسرائيلي لشمال غزة، عندما أغلقت القوات الشوارع بالدبابات وأطلقت النار ومنعت عمال الإغاثة من الوصول إلى قتلى القصف الإسرائيلي. وعانى الأب حازم السبعاوي من عذاب مزدوج في كل يوم -حيث كان حزيناً على ابنه وعاجزاً عن تكريمه ودفنه بصورة لائقة.
يقول الأب: “بعد اليوم الرابع، قلت لنفسي إن الكيل قد طفح. وإما أن أُدفن معه أو لا أتمكن من دفنه على الإطلاق”، وروى كيف دفن ابنه أسفل شجرة جوافة خلف بناية سكنية مملوكة لأحد الجيران.
ثم أردف السبعاوي: “يحق لكل إنسان أن يُدفن”.
الدفن بات “مهمة مستحيلة”
من جانبه، أوضح الدكتور محمد أبو موسى، أخصائي الأشعة في مستشفى النصر بجنوب غزة: “لقد وصل الوضع إلى حد أننا نقول: إن المحظوظ هو الشخص الذي سيجد من يدفنه بعد وفاته”.
واعتاد الفلسطينيون على تكريم موتاهم بمواكب جنازة عامة ونصب خيام العزاء في الشوارع لثلاثة أيام، من أجل استقبال الراغبين في تقديم التعازي. لكن الحرب جعلت الالتزام بتلك التقاليد أمراً مستحيلاً.
بدلاً من ذلك، جرى دفن الموتى في المقابر الجماعية وداخل ساحات المستشفيات وحدائق الأفنية الخلفية، ودون شواهد قبور على الأغلب، مع كتابة أسمائهم على الأكفان البيضاء أو أكياس الجثث. بينما يؤدي المشيعون صلاة الجنازة على عجل -إن سنحت الفرصة- داخل ردهات المستشفيات أو أمام أبواب المشارح.
تقول نبال فرسخ، المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، إن العنف عادةً ما يجعل وصول المنقذين إلى مواقع القصف أو استعادة الجثث بمثابة مهمة مستحيلة، حيث علقت بعض الأسر داخل منازلها لأيام متواصل مع جثث أحبائهم بحسب نبال.
في ما قدّر مسؤولو الصحة في غزة وجود نحو 7.000 شخص مفقود في غزة، وغالبيتهم في عداد الموتى تحت الدمار الهائل الناجم عن العدوان الإسرائيلي. وفي بعض المنازل، كتب الناس على جدران البيوت أسماء من يعتقدون أنهم لا يزالون مدفونين تحت الأنقاض.
محظوظ بدفن ابنه!
مع نزوح نحو مليوني مدني وقطعهم لرحلات السير الخطيرة باتجاه جنوب غزة -مارين بالقوات الإسرائيلية التي توجه فوهات البنادق نحوهم-، تحدث بعض النازحين عن رؤيته لعشرات الجثث المنتفخة والمتحللة بطول الطريق.
بينما أفاد هؤلاء لموقع New York Times الأمريكي بأن الجنود الإسرائيليين لم يسمحوا لهم بتغطية تلك الجثث، ناهيك عن دفنها من الأساس.
بالنسبة لسبعاوي، كان دفن كريم هو أقل ما يمكن تقديمه لابنه الذي شعر بالعجز عن حمايته.
بينما قالت زوجته سهى سبعاوي (32 عاماً) إنها تعرف أن فرصة هذا التكريم النهائي المرير لم تسنح لجميع الآباء في غزة.
وأوضحت: “قال لي الكثيرون: الحمد لله أنكم نجحتم في دفن ابنكم، وهذا لأن الكثير من الناس عجزوا عن دفن أطفالهم”.
مأساة الحطاب
في روايته، يقول أحمد الحطاب، وهو أب لأربعة أبناء، إن أحد الصواريخ ضرب بنايته السكنية في مدينة غزة ليلة السابع من نوفمبر/تشرين الثاني. وكان هناك 32 فرداً من أسرته في البناية وبينهم 19 طفلاً.
خرج الحطاب مع ثلاثة من أولاده من تحت الحطام، لكن أحدهم أصيب بكسر في الجمجمة وكان ينزف. لهذا سلّم الحطاب ابنيه غير المصابين -في عمر الخامسة والتاسعة- إلى الجيران، وحمل ابنه الجريح يحيى (7 سنوات) حتى عثر على سيارة إسعاف لاصطحابه إلى المستشفى.
في الصباح التالي، عاد الحطاب مع جيرانه وأقاربه ليحفروا بأيديهم وينتشلوا أربعة من أفراد الأسرة القتلى، وبينهم ابن أخيه البالغ 32 عاماً.
قرروا دفن الجثث في قبرٍ واحد داخل مقبرة خاصة مملوكة لعائلة أخرى، وذلك لأن الذهاب إلى المقابر العامة البعيدة كان أمراً بالغ الخطورة، علاوةً على أن القوات الإسرائيلية جرّفت بعض المقابر العامة أيضاً.
وقال إن بقية أفراد عائلته (24 من أقاربه) كانوا تحت قدرٍ كبير من الحطام ومن الصعب انتشالهم.
ظل الحطاب في المستشفى لثلاثة أيام أثناء خضوع ابنه للجراحة. وكان المستشفى على وشك الانهيار بالتزامن مع الضربات الجوية الإسرائيلية والاشتباكات التي اشتدت في محيطه.
مع استعداد أقاربه للفرار، أخذ الرجل قراراً يفطر القلب بترك يحيى واصطحاب ابنيه الآخرين إلى الجنوب، حيث كان يأمل أن يكون وضعهما أكثر أماناً.
وبعد أربعة أيام، وصله النبأ من صديقه بأن ابنه توفي في المستشفى، ودُفِن هناك مع بقية المرضى الذين لقوا مصرعهم، وأوضح الحطاب: “لقد كان مدفناً مؤقتاً، ولا أعلم ما حدث لجثته”.
وصرح العاملون الطبيون لصحيفة New York Times الأمريكية بأنهم اضطروا لحفر القبور في ساحات المستشفيات أحياناً. وقالوا إنهم اضطروا لترك العديد من الجثث عندما أجبر الجيش الإسرائيلي طواقم المستشفيات على إخلائها.
عادا لانتشال أسرتهما فاستشهدا أيضاً
في آخر حديث بين فاطمة الريس (35 عاماً) التي تعيش في النمسا مع شقيقيها الأصغر سناً يوم الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، قال الثنائي إنهما سيعودان إلى منزل العائلة في مدينة غزة.
وأخبرها الشقيقان محمد (31 عاماً) ومؤيد (25 عاماً) بأن هناك طاقم دفاع مدني في طريقه إلى البناية المكونة من سبع طوابق، والتي دمرتها غارة إسرائيلية قبلها بثلاثة أيام وفقاً لفاطمة. وأفاد الشقيقان بأن القصف قتل ثمانيةً من أفراد العائلة، بمن فيهم والداها.
وقالت فاطمة إن مؤيد “كان يرغب في دفنهم”.
في ذلك اليوم، انتشل عمال الدفاع المدني جثث الأم والأب وابن أخيهم البالغ 12 عاماً، قبل حلول الظلام الدامس، بحسب ما علمته فاطمة وقريبتها لبنى الريس من الشقيقين.
في اليوم التالي، دفن الأخوان جثث أفراد العائلة الثلاثة في المقبرة، ثم التقوا بعمال الدفاع المدني عند البناية المتهدمة؛ أملاً في انتشال المزيد من الجثث.
بمجرد أن بدأ عمال الإنقاذ في تمشيط الأنقاض، ضرب قصف إسرائيلي آخر المكان وأسفر عن مقتل مؤيد ومحمد والعديد من عمال الدفاع المدني معهما، وفقاً لفاطمة وقريبتها والتقارير الإخبارية الفلسطينية.
والتقط أحد المصورين المحليين فيديو لشكل المكان في أعقاب القصف مباشرةً، معرباً عن أساه على الأخوين اللذين تبعا والديهما حتى الموت.
ولا يزال خمسة من أفراد العائلة تحت الأنقاض حتى الآن.