“أسعارنا مخفضة إلى النصف، لدينا عروض مميزة للعائلات”، بتلك العبارات الدعائية جاءت ردود سماسرة تواصلنا معهم عبر تطبيق “واتساب”، لتكون خيط بداية توثيق انتشار شبكات تمارس الاحتيال بشكل منظم عبر منصات الإنترنت، بهدف التربح وجني الأموال من ضحايا الحرب في غزة، عبر مزاعم تسهيل إجراءات العبور من بوابة معبر رفح المصرية.
وتشهد مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الصفحات التي يزعم أصحابها إنجاز تلك المهام عبر تنسيقات أمنية، تتبارى فيما بينها للإيقاع بأكبر عدد ممكن من الضحايا، الذين يبحثون عن أية وسيلة للم شمل ذويهم وانتشالهم من الحصار المفروض عليهم بالقطاع على خلفية الاجتياح الإسرائيلي والقصف المتواصل منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
عروض وهمية
كانت البداية برد جاءنا سريعاً عبر تطبيق “واتساب” من مسؤول واحدة من هذه الشركات، التي تدّعي تقديم خدمة التنسيق لعبور الفلسطينيين والمصريين عبر معبر رفح.
استفسرنا عن المبلغ المطلوب نظير عبور أربعة أشخاص من غزة إلى القاهرة، بينهم فلسطيني لم يكتسب الجنسية المصرية، فكان رد المسؤول: “سأقدم لك خصماً 50 في المئة (لوجه الله)، بحيث تحصل الشركة على 2000 دولار فقط بدلاً من 4 آلاف”. قبل أن يشرح طريقة تحصيل المال: “نصف الرسوم تدفع قبل وصولهم القاهرة، والمبلغ المتبقي يكون عقب عبور البوابة المصرية”.
ونشطت هذه الشبكات في الفضاء الإلكتروني بشكل واسع مع تصاعد الضغط العسكري الإسرائيلي على سكان غزة، والدفع بسكان شمال القطاع إلى أقصى الجنوب حيث الحدود مع مصر. وتروج هذه الشركات لعروضها رغم إعلان وزارة الخارجية المصرية أخيراً استحداث آلية إلكترونية تكون الوسيلة الوحيدة لعودة المصريين وأسرهم من قطاع غزة إلى أرض الوطن، وتأكيد الوزارة، في بيان رسمي، أن أي طريقة أخرى يجري الحديث عنها من جانب البعض تندرج ضمن أعمال النصب والاحتيال واستغلال الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع غزة، ولا علاقة للدولة المصرية بها.
الدفع بأسعار السوق السوداء
طلبنا من السمسار، الذي يدعى عباس، أن يقدم لنا بدائل أخرى للدولار، فجاء رده المفاجئ: “قيمته لدينا 48 جنيهاً مصرياً بسعر أقل من السوق السوداء نحو ثمانية جنيهات”. بعدها تطرق إلى الإجراءات المتبعة بمجرد الموافقة على العرض، وكانت عبارة عن تحويل المبلغ وصور الجوازات والعنوان داخل فلسطين ورقم جوال واحد للتواصل مع المجموعة.
بحسب استشاري تشريعات التحول الرقمي الرئيس السابق للجنة التشريعات والقوانين في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية محمد حجازي، فإن هذه الشبكات المتمرسة في الاحتيال تلجأ إلى خدمة “واتساب”، لأسباب عديدة منها إمكانية استخدام أرقام وهمية، وإضفاء سرية على المكالمات، وضمان عدم الملاحقة، إضافة إلى وجود بعض التطبيقات التي يمكنها أن تظهر رقماً آخر، وإجراء تعديلات على الرقم الأصلي.
“طريقة التحويل بالجنيه المصري تكون عبر خدمة (فودافون كاش)، أما الدفع بالدولار فيكون بإرسال المبلغ على حساب خارج مصر”، يقول الرجل قبل أن يحرّك السعر المتفق عليه قليلاً استجابة للتفاوض. مضيفاً: “سأتسلم منك 45 ألف جنيه مقدماً ومثلها عقب الخروج من غزة”.
ومن أجل طمأنتنا ادّعى أن “مدير الشركة شخصية نافذة، والأمور تمام التمام” وفق تعبيره. بعد استخلاص هذه المعلومات توقفنا عن مراسلته، إلا أنه واصل عمليات الاتصال المتكرر عبر التطبيق، وتوجيه رسائل تستفسر عن موقفنا النهائي.
قادنا البحث إلى أشكال مختلفة ومتعددة من طرق استغلال العالقين في قطاع غزة وأسرهم، منها ما جاء عبر صفحة “تنسيقات أبو عمر”، التي تحظى بمتابعة واسعة من الفلسطينيين، وردها على متابع يتهمها بالاحتيال، وجني الأموال من عائلات الضحايا من دون تقديم المساعدات المتفق عليها.
بحسب هذه الشهادة فإن مسؤول الصفحة حصل على 1500 دولار أميركي نظير التنسيق لعبور إحدى الحالات عبر معبر رفح البري، لكنه لم يسهل الإجراءات كما تعهد.
وسرعان ما خرج أدمن الصفحة التي يتابعها أكثر من 6 آلاف شخص بتوجيه رسالة إلى متابعيه قائلاً: “لست في حاجة إلى أن أتحدث عن نفسي، لأن ما أقدمه يفوق الخيال”. ولتبرئة ساحتها كشفت الصفحة معلومات عن مؤسسها. وقالت إن اسمه الحقيقي أحمد خالد حسين محمد السيد العقاد أبو عمر، من أبناء خان يونس، ومشهود له بالصدقية.
واختتمت رسالتها بصبغة دينية محذرة صاحب التعليق من العقاب الإلهي، وأرفقت المنشور بآية قرآنية، لتتوالى بعدها ردود فعل المتابعين المشيدة بتعاملات أبو عمر، وتطلب منه مواصلة إعلان المواعيد الجديدة للحجوزات.
جريمة اتجار بالبشر
يؤكد متخصص تشريعات وسائل الاتصال محمد حجازي أن قانون العقوبات يجرم مثل هذه الممارسات، لكنها لا تقع ضمن الجرائم الإلكترونية، لأنها وفق رأيه لا تمثل إساءة استخدام لمواقع التواصل بسبب موافقة الطرفين، ولم تحمل تهديداً أو إزعاجاً. مستدركاً: “لكن يمكن أن يصنف بعضها باعتبارها اتجاراً بالبشر”.
ويؤكد القانوني المتخصص في شؤون قضايا اللاجئين ياسر فراج ، وجود مادتين يمكن اللجوء إليهما لمعاقبة المسؤولين عن هذه الشبكات، التي تستغل الراغبين في السفر بغض النظر عن استطاعتهم تنفيذ وعودهم من عدمه، ما يمثل جريمة منصوص عليها في القانون الخاص بمكافحة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة. وهو القانون الذي جرى إعداده بناءً على اتفاقات دولية وقعت عليها مصر.
وتضم وزارة الداخلية المصرية إدارات متخصصة في هذا الشأن مثل مكافحة المخدرات والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والجريمة المنظمة. وأوضح فراج أن هذه الممارسات تقع أيضاً ضمن إطار جريمة النصب والاحتيال، لكن الإشكالية أن المجني عليه في الغالب لا يبلغ عن مثل هذه العمليات التي يتعرض فيها للنصب.
حكايات العالقين في غزة على معبر رفح
ونص القانون المصري رقم 64 لسنة 2010 على أنه “يعاقب كل من ارتكب جريمة الاتجار بالبشر بالسجن المشدد لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على 15 سنة، وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تتجاوز 200 ألف جنيه مصري أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد على المجرم من أرباح أيهما أكبر.
وفي الأسابيع الأولى من حرب غزة انتشرت استغاثات مصريين محاصرين داخل قطاع غزة، لطلب مساعدات من الحكومة بتوفير عبور آمن لهم إلى بلادهم. وفي تلك الأثناء خرج الشاب المصري هاني الشافعي برسالة مؤثرة في صفحته الشخصية حظيت بانتشار واسع، باستعراضه أزمة اضطرار زوجته وطفلته إلى الذهاب إلى غزة قبل اندلاع الحرب بأيام لحضور حفل زفاف أحد أفراد العائلة.
وتواصلنا مع الشافعي لمعرفة مستجدات الأزمة، فقال إن زوجته وطفلته وصلا منذ أكثر من 20 يوماً، مؤكداً أن الأسماء “نزلت في الكشف، وبعدها خرجا من المعبر بصورة طبيعية من دون أن يدفعوا أموالاً”.
لكن شهادة الشافعي تقابلها شهادات أخرى جمعناها تسير في اتجاه مغاير، منها ما قاله لنا “فراس” (اسم مستعار)، شاب فلسطيني يعمل في قناة إخبارية واسعة الانتشار داخل مصر، من أنه اضطر إلى اللجوء لإحدى الشركات، لإنقاذ والده ووالدته من الوضع الصعب الذي يشهده القطاع المحاصر.
وفق شهادته، فإن فراس سجّل أسماء أسرته منذ ما يقارب شهرين في وزارة الخارجية المصرية من دون جدوى، مما جعله مضطراً إلى الذهاب لمقر الشركة، التي تقع بإحدى مناطق مدينة نصر، واستمرت الإجراءات ما يقارب نصف الساعة حتى تسليم الأوراق الثبوتية الخاصة بالحالات ودفع المبالغ المطلوبة.
انتظار قوائم الخارجية
بحسب شهادة فراس فإنه دفع 650 دولاراً أميركياً للفرد الواحد، لكن الأطفال يدفع عنهم 325 دولاراً أميركياً فقط. كان لدى الشاب الثلاثيني قناعات دفعته إلى التقديم عبر هذه الشركة، منها أنها مضمونة، وسبق له التعامل معها. مؤكداً أن من يقف خلفها “شخصيات نافذة”.
وأشار الشاب الفلسطيني إلى أنه استقبل اتصالاً من الشركة عقب تسجيل البيانات بنحو 74 ساعة يخبره أن أسماء أسرته موجودة في قوائم الخروج من المعبر. مشدداً على أن أفراداً من عائلته وصلوا قبل أيام إلى القاهرة بواسطة الشركة.
ما قدمه فراس من معلومات تطابقت إلى حد كبير مع شهادات أخرى، وهو ما تنفيه الجهات الرسمية المصرية بصورة قاطعة. وتشدد دائماً على عدم وجود أية وسيلة للتسجيل سوى المنصة التابعة لوزارة الخارجية.
وقبل نحو أسبوعين، أعلن متحدث الخارجية المصرية أحمد أبو زيد، أن الوزارة دشنت موقعاً موحداً لجمع وإعداد قوائم دقيقة للغاية للمصريين الراغبين في العودة من قطاع غزة، لإرسالها إلى وزارة الخارجية، ومن ثم تدقيقها، وإرسالها إلى معبر رفح للجانبين الفلسطيني والمصري، اللذين يشرفان على معبر رفح لتسهيل عودتهم إلى مصر.
وأضاف أبو زيد أن الموقع تشرف عليه البعثة المصرية في رام الله، ويمثل البوابة الرئيسة التي يتقدم إليها أي مواطن مصري مقيم في قطاع غزة أو أسرته، لتسجيل طلب العودة لأرض الوطن، مؤكداً أنهم اكتشفوا أن عودة المصريين كان بها “بيانات وأساليب غير سليمة”.
وبحسب تصريحات صادرة عن رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية ضياء رشوان منتصف هذا الشهر، فإن بلاده استقبلت عبر معبر رفح البري 14023 شخصاً من الرعايا الأجانب ومزدوجي الجنسية، و2135 مصرياً من قطاع غزة.
وبالتواصل مع مصريين محاصرين في غزة وجّه البعض منهم انتقادات، بسبب بطء إجراءات التسجيل عبر وزارة الخارجية، وسط محاولات استغلال من شركات تطلب مبالغ طائلة منهم.
ويتطرق فراس إلى الإجراءات التي اتبعتها الشركة معه: “طلبوا صور جوازات السفر، وأخذوا رقمي، وبعدها بفترة تواصلوا معي قبل نزول الأسماء بيوم واحد”. مشيراً إلى أنهم يتواصلون مع أشخاص موجودة في مصر فقط، ويطلبون منهم إخبار ذويهم في غزة بالانتقال إلى المعبر عقب انتهاء الإجراءات.
أساليب دعائية مبتكرة
“راحتك مسؤوليتنا. تمتع بسفر مريح في أقل وقت للرحلة”، كانت من ضمن الجمل الدعائية التي لفتت انتباهنا بمجرد الانتقال إلى صفحة الشركة التي لجأ إليها فراس على “فيسبوك”، التي تعمل بشكل معلن، وتمتلك مقراً لها بمدينة نصر.
وبتصفح منشورات الصفحة وجدنا أنها استمرت في الإعلان عن استقبال الحجوزات المصرية، حتى بعد صدور البيان الصادر عن وزارة الخارجية المصرية، معلنة في أكثر من مناسبة أن أسعار الرحلات من القاهرة إلى غزة مخفضة.
وعبر صفحتها، بدأت الشركة تروّج لخدماتها رغم ظروف الحرب في غزة. معلنة وصول رحلات من قطاع غزة بـ”سلام”. وأكدت لمتابعيها أن السفر “مقصور على اتجاه واحد من غزة إلى مصر”. وذكرت أن التعامل في الوقت الحالي مع الذين “بحوزتهم جوازات مصرية فقط”.
وبينما حملت التعليقات استفسارات عن مواعيد الحجز للفلسطينيين جاء رد الأدمن أنها متوقفة حالياً. وأبدى البعض انزعاجه من تأخر الإجراءات الخاصة بهم مقارنة بأخرى انتهت في أوقات قياسية.
وبالتواصل مع أحد الأشخاص، الذي يدّعي الانتماء إلى الشركة، والذي حصلنا على جهة الاتصال الخاصة به من خلال صفحة تحمل اسم “تنسيقات مصرية” جاءت الردود مقتضبة. مشيراً إلى أنهم لا يوفرون تنسيقات للفلسطينيين حالياً، والخدمة مقصورة على المصريين الذي يحملون أوراقاً ثبوتية، بطاقات شخصية أو جوازات سفر. وموضحاً أن المصري فوق 16 سنة يدفع 650 دولاراً أميركياً وأقل من 16 سنة 325 دولاراً أميركياً. وبمجرد الاستفسار عن التخفيضات المتاحة توقفت ردوده على الرسائل.
محمود، (اسم مستعار)، شاب فلسطيني وصل مصر قبل الحرب بأيام لإنهاء إجراءات اكتساب الجنسية المصرية، أكد أنه دفع 330 دولاراً فقط لإحدى الشركات التي سهّلت له إجراءات الوصول إلى القاهرة، قبل أن ترتفع الأسعار مع اشتعال الوضع في غزة. وهي الشركة ذاتها التي لجأ إليها فراس.
وبحسب شهادته فإنه يجد الآن صعوبة في توفير المبلغ المطلوب، لإنقاذ أسرته المكونة من أربعة أفراد، التي اكتسب جميع أفرادها الجنسية المصرية.
يؤكد المتخصص القانوني ياسر فراج أن الجرائم المعلوماتية، التي تقع عبر مواقع التواصل الاجتماعي تقع ضمن اختصاص المحكمة الاقتصادية، والشرطة المتخصصة بها مباحث الإنترنت. داعياً إلى ضرورة أن تتحرك إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية لمزاولة اختصاصها وبمتابعة هذه الشبكات الاحتيالية عبر تحريات جادة، وبذل جهد للكشف عن المسؤولين عنها.
ووفق شهادة محمود فإنه تواصل مع الشركة قبل أيام، لكنها أخبرته أن كلفة تنسيق إجراءات العبور للفرد الواحد 650 دولاراً أميركياً، ومع ذلك فإنها تقدم عرضاً خاصاً للأسرة بجميع أفرادها بكلفة 2000 دولار.
وروى محمود أنه سجّل أسماء أسرته بوزارة الخارجية، ولم يحصل على إفادات حتى الآن. مشيراً إلى أن والدته سيدة مسنة ومريضة، وأسرته تعيش على الفتات من دون مأوى، بعد أن تعرض منزل الأسرة الكائن في مخيم الشاطئ للقصف الإسرائيلي، اضطرها إلى النزوح نحو رفح. اندبندنت عربية