
التجويع .. السلاح الملعون !!
التجويع كسلاح حرب ليس ظاهرة جديدة، ولكنه في العدوان الإسرائيلي على غزة اتخذ طابعًا أكثر فجاجة ووضوحًا، حتى بات العالم بأسره أمام مشهد يتكرر فيه التاريخ بأبشع صوره، في لحظة نادرة تترنح فيها القيم الأخلاقية والإنسانية تحت وطأة الصمت الدولي. لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل استخدام التجويع كوسيلة للتركيع والإذلال وكسر إرادة الخصم، غير أن القانون الدولي الحديث، وفي ضوء التجارب المريرة للحروب العالمية، جرّم استخدام هذا السلاح، واعتبره جريمة حرب لا تسقط بالتقادم.
نص البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949 في المادة 54 على تحريم استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب. كما حرّم تدمير المواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، كالمواد الغذائية والمحاصيل الزراعية ومرافق مياه الشرب. كذلك، نصّ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة 8/2/ب/25 على أن تعمّد تجويع المدنيين من خلال حرمانهم من المواد الضرورية لبقائهم هو جريمة حرب. وهذا ما يحدث في غزة بشكل صريح، عندما تُقصف مخازن الغذاء وتُمنع المساعدات وتُحاصر الطرق وتُستهدف فرق الإغاثة.
لقد جرى استخدام التجويع عبر التاريخ، ليس فقط كتكتيك عسكري، بل كسياسة ممنهجة لإبادة الشعوب أو تهجيرها أو إخضاعها، ومن أبرز الأمثلة حصار لينينغراد الذي دام أكثر من 900 يوم خلال الحرب العالمية الثانية، ومات فيه أكثر من مليون إنسان جوعًا. وكذلك الحصار الذي فُرض على العراق في التسعينات، وحصار سراييفو في البوسنة، حيث فتك الجوع بالبشر قبل أن تفتك بهم القذائف. ولكن ما يميّز الحالة في غزة أن التجويع لا يتم على هامش الحرب، بل كجزء مركزي من استراتيجيتها، وأن من يُجوّعون هم شعب محاصر منذ أكثر من 17 عامًا، بلا منفذ، بلا مرفأ، بلا مطار، في مساحة لا تتجاوز 365 كلم².
الجوع هو حالة طارئة، ظرفية، نتيجة فقر أو أزمة اقتصادية أو كوارث طبيعية، وقد يصيب دولًا غنية أو فقيرة. أما التجويع فهو فعل متعمّد، قرار سياسي أو عسكري، يستهدف الإنسان في قدرته على الصمود، ويجعله يرضخ مذلولًا من أجل لقمة خبز. ومن هنا فإن الفرق بين الجوع والتجويع ليس لغويًا أو إنسانيًا فقط، بل قانوني أيضًا. فالجوع لا يُجرّم، أما التجويع فيُعتبر جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية.
ومن المفارقات المرّة أن استخدام التجويع في الحروب كان مرفوضًا حتى بين الدول المتحاربة في القرن التاسع عشر. ولكن الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن، خلال الحرب الأهلية الأمريكية، أجاز استخدام التجويع ضد الولايات الجنوبية، ما فتح الباب لاحقًا لاستخدام هذا السلاح داخليًا، ثم توسع لاحقًا ليشمل المدنيين في الصراعات الدولية. ومع تطور القانون الدولي الإنساني، تم تقنين هذا الحظر، واعتُبر التجويع عملاً يناقض القيم الإنسانية والدينية، ويشكل تهديدًا خطيرًا للمدنيين وللأمن الغذائي العالمي.
في الحالة الفلسطينية، لم يعد التجويع مجرد وسيلة ضغط، بل سياسة ممنهجة تُمارس منذ سنوات، وتكثّفت بعد السابع من أكتوبر 2023، عندما أعلن مسؤولون إسرائيليون بشكل علني قطع الماء والكهرباء والوقود والمواد الغذائية عن غزة. هذا الإعلان العلني عن نية تجويع المدنيين يشكل اعترافًا واضحًا بجريمة حرب مكتملة الأركان، تُرتكب على مرأى ومسمع العالم، دون محاسبة أو حتى إدانة حقيقية من القوى الكبرى.
إن صمت المجتمع الدولي إزاء هذه الجريمة يعكس اختلالًا خطيرًا في منظومة العدالة الدولية، ويبعث برسالة مفادها أن هناك دولًا فوق القانون. ولكن التاريخ لا يُمحى، والجرائم لا تسقط بالتقادم، وتجويع شعب بأكمله لن يُنسى في ضمير الإنسانية. لقد صمدت شعوب كثيرة أمام الجوع، وانتفضت على الجلاد، فالتجويع قد يُخضع الجسد، لكنه لا يُخضع الروح. وغزة، التي باتت رمزًا لهذا الصراع، لن تُكسر بالجوع، كما لم تُكسر بالقصف. إنها لحظة تاريخية فاصلة لا تُقاس بميزان القوة، بل بميزان العدل، وإن تجويع الأبرياء هو إعلان إفلاس أخلاقي قبل أن يكون انتهاكًا قانونيًا.
المحامي فضيل العبادي
رئيس اللجنة القانونية / مجلس محافظة العاصمة