
بقلم: أ.منصور البواريد
في قلب الأردن، حيث تتجذر أصالة الماضي وعراقة الحاضر، تقع مأدبا وذيبان اللذان تمتلكان إرثًا ثقافيًّا وسياحيًّا هائلًا، لكنهما تواجهان واقعًا اقتصاديًّا صعبًا. البطالة تنهش في الشباب، والفقر يفرض سطوته، والمصانع المؤجلة تزيد الأزمة تعقيدًا، بينما يعاني السُّكان من تراجع الخدمات وانعدام المشاريع التَّنمويَّة الفاعلة. فإلى متى تبقى مأدبا وذيبان خارج حسابات التنمية الحقيقية؟
أرقام صادمة: مأدبا وذيبان في صدارة البطالة
لم تأتِ الإحصائيَّات الرَّسميَّة بجديد، لكنها أكدت ما يعرفه الجميع: مأدبا، وبالأخص ذيبان، تتصدر معدلات البطالة في الأردن بنسبة 26%، وهي أعلى من المعدل الوطني البالغ 19%. في ذيبان، تبدو الصورة أكثر قتامة، حيث ترتفع البطالة بين الشباب الجامعيين، وتصل إلى مستويات غير مسبوقة بين الإناث، مما يجعل المنطقة بؤرة لأزمة اقتصادية واجتماعية خانقة.
الملك عبد الله الثاني-حفظه الله ورعاه-، ومُنذ توليه العرش، تبنّى رؤية اقتصادية واضحة تهدف إلى تعزيز النمو الشامل والمستدام، وتحفيز الاستثمار، وخلق فرص العمل للشباب الأردني. ورغم التحديات الاقتصادية التي يواجهها الأردن، فإن الرُّؤية الملكية لطالما ركّزت على تمكين المحافظات، مثل مأدبا وذيبان، من الاستفادة من مواردها الفريدة وتحقيق تنمية متوازنة.
في ظل تفشِّي البطالة وتراجع الخدمات في مأدبا وذيبان، فإنَّ تطبيق هذه الرُّؤية على أرض الواقع بات ضرورة مُلحّة. فالمدينة الصناعيَّة في دليلة الحمايدة، التي لم تُستغل بالشكل الأمثل، مثال على الفرص الضائعة التي كان يمكن أن تكون جزءًا من المشروع الاقتصادي الملكي الأوسع، والذي يركز على جذب الاستثمارات وإقامة مشاريع إنتاجية حقيقية. كما أن القطاع السياحي في مأدبا وذيبان، الذي يتماشى تمامًا مع توجهات الملك عبد الله الثاني-حفظه الله ورعاه- نحو تحويل الأردن إلى وجهة سياحية عالمية، يحتاج إلى استثمارات جادة، بدلًا من أن يبقى مجرّد إمكانيات غير مستغلة.
إن تحقيق التنمية في هذه المناطق لا يتطلب فقط تحسين البنية التحتية أو إطلاق مبادرات مؤقتة، بل يحتاج إلى تنفيذ سياسات تعكس رؤية الملك في خلق بيئة اقتصادية مرنة، تعتمد على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتستفيد من الميزات التنافسية لكل محافظة. فهل ستتمكن الحكومة من ترجمة هذه الرؤية إلى مشاريع ملموسة تنهي حالة التهميش التي تعاني منها مأدبا وذيبان؟
مشاريع متعثرة ومدن صناعية بلا مصانع!
رغم وجود مدينة صناعية تقنية في دليلة الحمايدة، تم إنشاؤها بميزانية ضخمة بلغت 45 مليون دينار، إلا أن النتائج كانت مخيبة للآمال. تسعة مصانع كان من المفترض أن تعمل وتوظف المئات، لكنها لا تزال متوقفة، ولم يُفعّل منها إلا ثلاثة فقط! أزمة كورونا أجلت التشغيل، لكن ما الذي يعطّل انطلاقة المشاريع اليوم؟
المفارقة أن المنطقة تزخر باليد العاملة المؤهلة؛ ولكن دون مصانع حقيقية تستوعبهم، بينما تلجأ الحكومة لحلول ترقيعية كتقديم دورات تدريبية بلا أي أفق حقيقي للتوظيف.
شح الخدمات وتجاهل حكومي صارخ
لا تقتصر الأزمة على البطالة، فحتى الخدمات الأساسية تعاني من نقص مزمن. المستشفيات والمراكز الصحية تعاني من قلة الكوادر والمعدات، والطرق بحاجة إلى صيانة وتوسعة، والبنية التحتية في بعض المناطق أشبه بما كانت عليه قبل عقود. السكان يطالبون، يشتكون، يناشدون، لكن لا استجابة تُذكر من المسؤولين!
مأدبا وذيبان.. كنوز سياحية بلا استثمار!
تملك ذيبان ومأدبا مواقع تاريخية وسياحية فريدة يمكن أن تجعلها وجهة سياحية عالمية؛ لكن الإهمال والتجاهل الاستثماري حوّل هذه الكنوز إلى مناطق مهمشة. من جبل نيبو، حيث وقف النبي موسى، إلى المواقع البيزنطية الفريدة، ومن مكاور، حيث سُجن النبي يحيى، إلى وادي الهيدان ووادي الوالة والكثير الكثير، كلها مواقع تُركت بلا تطوير أو استغلال اقتصادي حقيقي.
لو استُثمرت هذه المواقع كما ينبغي، لكانت السياحة مصدرًا رئيسيًّا لتوفير فرص العمل وإنعاش الاقتصاد المحلي.
الحلول.. إلى متى الانتظار؟
آن الأوان للحكومة أنْ تتخذ خطوات جادة لحل مشكلات مأدبا وذيبان. المطلوب ليسَ مجرد خطط ورقية، بل إجراءات فورية على أرض الواقع، ومنها:
تشغيل المصانع المتوقفة فورًا، وإلزام المستثمرين الذين حصلوا على التراخيص بالبدء بالإنتاج أو سحب الامتيازات منهم. إطلاق مشاريع سياحية حقيقية، بالشراكة مع القطاع الخاص، لتشغيل الشباب واستغلال المواقع الأثرية الفريدة. تحسين البنية التحتية والخدمات العامة، خاصة في مجالات الصحة، النقل، والتعليم، لتكون داعمة لأي تنمية مستقبلية. دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر توفير التمويل والتسهيلات اللازمة للشباب لخلق فرص عمل حقيقية ومستدامة. مأدبا وذيبان تستحقان الأفضل!
الأردن غني بموارده وبأبنائه؛ ولكن عندما تكون مناطق مثل مأدبا وذيبان خارج معادلة التنمية، فإنَّ الفقر والبطالة لن يكونا مجرد أرقام في التقارير الرسمية، بل واقعًا مؤلم جريح. إلى متى يبقى شباب ذيبان ومأدبا أسرى للوعود والتأجيل؟ الأسئلة كثيرة؛ ولكن الأكيد أن هذه المناطق تحتاج إلى حلول عاجلة، لا إلى مزيد من النسيان والتناسي!