محور التعليم العالي في الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية 2016-2025

البروفيسور عبد الله سرور الزعبي

استكمالاً لسلسلة المقالات التي كنت قد بدأت التحدث فيها عن محاور الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، محور التعليم المبكر (الطفولة) والذي تجاوزته لعدم توفر المعلومات وعدم الاختصاص ومحور التعليم العام ومحور التعليم المهني والتقني ومحور التعليم العالي (موضوع الحديث في هذا المقال) للأعوام 2016-2025. وهنا نشير الى ان الهدف من المقال ليس الانتقاد، بل للوقوف على مكامن الخلل وللارتقاء بالتعليم العالي لتحقيق الرؤى الملكية السامية للدولة الأردنية.

وعلى الرغم من ان التعليم العالي يحظى بأولوية قصوى لدى القيادة الهاشمية خلال العقود الماضية وما زالت، وخاصة منذ تولي جلالة الملك سلطاته الدستورية من خلال المبادرات الملكية المتعددة والمطالبة باستراتيجيات عملية ترتقي بقطاع التعليم العالي لتحقيق التنافسية العالمية وتأهيل الكوادر البشرية للانتقال الى الاقتصاد المبني على المعرفة. وعلى الرغم من التوسع في اعداد الجامعات والكليات الجامعية والزيادة الكبيرة في اعداد حملة الشهادات الجامعية الأولى ودرجتي الماجستير والدكتوراه او اعداد الطلبة المتواجدين على مقاعد الدراسة والبالغ عددهم اليوم 475731 طالب في كافة المستويات الدراسية، منهم 51647 من الطلبة الوافدين)، والزيادة في اعداد اعضا الهيئة التدريسية، الا ان هذه الزيادة لم يرافقها الزيادة المنشودة في اعداد البحوث العلمية والاعمال الابداعية والابتكارية وزيادة في عدد براءات الاختراع لابل تراجعت جودة التعليم وقدرة الخريجين على المنافسة وكذلك تراجعت قدرت الجامعات الوطنية على المنافسة في الساحة الاقليمية (حسب ما ورد في الاستراتيجية الوطنية) مما تطلب اعادة ترتيب الاولويات وهيكلة القطاع لإعادة البريق له كما كان في العقود الماضية، ولكي يساهم في التنمية الاقتصادية القائمة على اقتصاد المعرفة ولكي ننتقل الى الاقتصاد الرقمي بنجاح وهما حجرا الأساس لأي تنمية منشودة.

من هذا المنطلق جاءت الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية ووضعت خمسة اهداف استراتيجية لمحور التعليم العالي وهي: المساواة من حيث توفير فرص عادلة مبنية على أسس تتمتع بالمساواة للطلبة بناءً على الجدارة والقدرات، الجودة من حيث رفع معايير مخرجات الأبحاث العلمية وجودتها ومستوى التدريس والتعلم بما يتوافق مع افضل الأساليب والمعايير في الجامعات المتطورة،المساءلة من حيث تحفيز الجامعات على تحمل المسؤولية في تحقيق الأهداف الوطنية الاقتصادية والاجتماعية وتطبيق الحكومة الرشيدة، الابتكار من حيث التمكين لتبني افضل الممارسات الدولية في التدريس والتعلم، والهدف الخامس أنماط التفكير. كما احتوى كل هدف من الأهداف الرئيسية على مجموعة من الأهداف الفرعية والتي وردت في الخطة التفصيلية والتنفيذية الصادرة عن وزارة التعليم العالي في أواخر عام 2016 مبينة فيها مراحل التنفيذ وصولاً الى الأهداف الاستراتيجية بحلول العام 2025، يضاف اليها خطة لمعالجة مديونية الجامعات الحكومية.

 

اليوم ومع دخول العام 2025، أصبح من الضروري التوقف عند اهداف الاستراتيجية ومشاريع تنفيذها ومؤشرات الأداء لنجري تقيم ماذا تحقق منها، وهل بالفعل تحققت النتائج المنشودة والواردة في صفحة 43 والتي منها الوصول الى نسبة توظيف عالية للخريجين في الصناعات والمجالات التي يتم تحديدها كأولوية للنمو الاقتصادي وتطوير المهارات لدى الخريجين (على مستوى المملكة) وتطوير نظام تعليم عالي يعتمد المهارات الحديثة والمهارات القابلة للتحول التي يحتاجها سوق العمل وغيرها من الأمور.

ان عملية المراجعة والتقييم قد تساعدنا في الوقوف على مكامن الخلل ان وجد؟ والعمل على معالجته.

لتحقيق الهدف الأول وهو توفير الفرص العادلة (المساواة) فقد تم طرح أربعة مشاريع، الأول متعلق بإلغاء قبول الموازي للوصول الى الغاء البرنامج بحلول 2025 وهو الذي لم ينفذ على الاطلاق، والثاني والمتعلق بالسنة التحضيرية والتي تم المباشرة بالعمل فيها مع بداية العام الجامعي 2018-2019 في تخصص الطب وطب الاسنان في جامعتي العلوم والتكنولوجيا والجامعة الاردنية، ولكن تم التراجع عنها مع بداية العام الجامعي 2019-2020، والثالث المتعلق بتوجيه الطلاب نحو الوظائف المناسبة، قد يكون تم ولو جزيئا، الا النتائج تشير الى ان نسبة اعداد الطلاب في التخصصات المشبعة والراكدة ما زالت مرتفعة (حوالي 48.3%)، اما المشروع الرابع والمتعلق بتوسيع قاعدة الدعم لتصل الى 60% من الطلبة، نستطيع القول بانه تم بشكل جيد الى حد ما (حيث بلغ اعداد الطلبة المرشحين للحصول على منح وقروض حوالي 53,132 طالب للعام 2024-2025 (حسب المعلن يوم الخميس 31/1/2025 )، دون الحصول على مخصصات مالية كافية، مما اضعف من قدرة الوزارة على تسديد التزاماتها اتجاه الجامعات الحكومية في الوقت المناسب، والتي بلغت حتى نهاية العام 2024 بما قد يزيد عن 72.5 مليون دينار، الامر الذي أدى الى اضعاف قدرة بعض الجامعات على الوفاء بالتزاماتها في الوقت المحدد.

لتحقيق الهدف الثاني والمتعلق بالجودة وخاصة جودة مخرجات البحث العلمي والتدريس والتعليم بما يتماشى مع الجامعات العالمية الحديثة، فقد تم طرح خمسة مشاريع، حيث كان المشروع الأول لتحقيق معايير ضمان الجودة في جميع الجامعات الأردنية، الا ان الأرقام المتاحة تشير الى ان عدد البرامج الحاصلة على شهادات ضمان الجودة حتى نهاية العام 2024 قد وصلت الى 355 برنامج  من اصل حوالي  826 برنامجاً تنطبق عليها الشروط، وبالتالي فان نسبة البرامج المحققة لضمان الجودة بحلول 2025 في كافة الجامعات الأردنية هي اقل من 45%، وعليه، فأننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن الوصول الى المعايير الدولية لمعظم البرامج (وهذا يودي الى التأثير على سمعة الجامعات واضعاف فرص العمل للخريجين في حال عدم تحقيقها، الصفحة 252 من الاستراتيجية). اما فيما يخص تسكين البرامج المطروحة على كافة المستويات في الجامعات والكليات والبالغ عددها 1943 (حسب ما هو منشور على موقع هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي) حيث تم تسكين 1025 منها (أي بنسبة 52.7%)، وهناك 616 تخصص قيد التسكين (بنسبة 31.7%)، وبالتالي فان العدد الكلي للتخصصات المسكنة وقيد التسكين يكون بواقع 1641 تخصصاً، وتشكل نسبة 84.4%، وهذا يعتبر تقدما كبير في هذا المجال، وهنا نشير الى ان نسبة تسكين التخصصات في بعض الجامعات قد وصلت الى 100% كجامعة العلوم والتكنولوجيا وال البيت والحسين التقنية.

كما ان الاستراتيجية اعدت المشروع الثاني والمتعلق بمراجعة التخصصات المطروحة في الجامعات والية القبول فيها واعداد الملتحقين، حيث جاء في الاستراتيجية بان يتم الحد من قبول الطلبة في التخصصات الراكدة والمشبعة، الا ان اعداد الطلبة في هذه التخصصات للعام الجامعي 2024-2025 بلغ 188,769 من اصل 390,741 طالباً على مقاعد الدراسة (حسب ما هو منشور) وبنسبة تتجاوز 48%، وكذلك فان الالتحاق في برامج الدبلوم التقني والتطبيقي في الجامعات والكليات كافة ما زال اقل من 14% من اجمالي اعداد الطلبة، بينما كان يجب ان تصل بحلول 2025 الى 35% (نسبة طلبة الدبلوم المتوسط التقني والتطبيقي الى البكالوريوس) وبالتالي فأننا ما زلنا  بعيدين عن تحقيق هذا الهدف.

اما المشروع الرابع والمتعلق برفع كفاءة أعضاء الهيئة التدريسية، ومن منطلق خبرتي ومعرفتي الشخصية خلال عملي في صندوق دعم البحث العلمي وكاكاديمي تدرج في المواقع الاكاديمية، فان هناك بعض من أعضاء الهيئة التدريسية (رغم محدودية عددهم) كانوا قد دخلوا الجامعات بدون وجه حق وما زال بعضهم يترقى بنفس الطريقة بحيث وصل بعضهم الى أماكن صنع القرار في بعض الجامعات، والامثلة كثيرة (سبق ان تحدثت عن الموضوع في مقابلة مع جريدة الدستور منشورة بتاريخ 5/5/2013).

اما المشروع الرابع والمتعلق بجودة التدريس ومخرجات الأبحاث العلمية (سبق ان تحدثت في مقال سابق منشور في جريدة الغد تحت عنوان ويحدثونك عن البحث العلمي بتاريخ 29/4/2023 و30/4/2023، من الممكن ان اتحدث عن هذا في الجزء الخاص بتجربتي الشخصية)، حيث ورد في الاستراتيجية بان جودة البحث العلمي في الأردن هي 37% (صفحة 251، حسب تقرير مؤشر الازدهار الأردني 2016) الا ان المؤشرات تبين بان مستوى البحث العلمي قد تراجع من حيث جودة البحوث المنشورة في المجلات العلمية العالمية المرموقة ونسبة الاستشهاد، وازدياد في اعداد حالات الاستلال العلمي والنشر في مجلات علمية وهمية. ان الامر لم يقف عند بعض أعضاء الهيئة التدريسية، بل ما يثير الاستغراب بان يقوم  احد وزراء التربية والتعليم العالي السابقين ووزير اخر للتربية التعليم سابق وكلاهما سبق ان خدما رؤساء لجامعتين مرموقتين ان مارسا كل أنواع الضغط لتمرير ترقية على رسائل قبول نشر وهمية، لا بل ان احد وزراء التربية والتعليم العالي السابقين طالب بإعادة من تم الاستغناء عن خدماتهم من الجامعة بسبب الاستلال العلمي (متناسياً ان في مثل هذه الحالة كان من المفروض ان يكون هو الأكثر حرصاً على تنظيف الجسم الاكاديمي من مثل هؤلاء)، كما تم المطالة من قبله لمنح رتب اكاديمية باثر رجعي، وفوق كل ذلك لقد تم الدفع بأشخاص كان من المفترض ان لا يقبلوا في الجامعات او انهاء خدماتهم او الاستغناء عنها بسبب السيرة البحثية والأكاديمية  لهم (حسب تقارير موثقة في بعض الجامعات) الى قمة الهرم الاكاديمي، وهو الامر الذي يخالف ليس فقط الأعراف الاكاديمية، بل كل معايير الجودة.

اما من حيث الانفاق على البحث العلمي والتطوير فاذكر الى انه كان قد وصل الى 0.7 في عام 2014 (حيث كنت اعمل مدير علم لصندوق دعم البحث العلمي) لينخفض الى 0.52 لاحقاً، وليصل الى اقل من 0.4 في العام 2024 (حسب أحد المسؤولين الذي اعتذر عن ذكر اسمه) من الناتج المحلي. وهنا فأننا نتساءل هل حققت الاستراتيجية هذا الهدف الاستراتيجي كما هو مخطط له.
كما انني لن اتطرق في هذا المقال الى البيئة الجامعية بشكل تفصيلي، حيث إشارة الاستراتيجية الى انها ستعمل على توفير بيئة جامعية عالمية من منهاج متطور وأعضاء هيئة تدريس مؤهلين وادارات جامعية جيدة والانتهاء من العنف الجامعي (الا انني أستطيع القول بان العنف الجامعي انخفض بشكل كبير في السنوات الأخيرة الا ان بعض الجامعات ما زالت تعاني منه وبدرجات مختلفة). كما إشارات في الصفحة 251 بان عدم توفر مثل هذه الأمور سيؤثر سلباً على أداء الطلبة وسيؤدي الى اثار سلبية على شخصيتهم وضعف في الانتماء لديهم، واترك الحكم على هذا الهدف للمراقبين الاخرين.
ان الاستراتيجية وضعت ثلاثة مشاريع لتحقيق الهدف الثالث والمتعلق بالمساءلة، من حيث تعزيز الحاكمية وتعين رؤساء جامعات مبني على الكفاءة وتعزيز نظام الحوافز. وهنا نشير الى ان دور مجلس التعليم العالي يجب ان يتركز في رسم السياسات والتوجيه والاشراف (تشير الاستراتيجية في الصفحة 252 بان مجلس التعليم العالي تحول من واضع للسياسة التعليمية الى الدور الاجرائي وأصبح شريك في شؤون الجامعات وعلى المستويات الإدارية المتوسطة والمنخفضة). ان المراقب للقرارات الصادرة عن مجلس التعليم العالي والمنشورة في الاعلام يجد ان مجلس العليم العالي مازال يمارس الدور الاجرائي وشريك في إدارة شؤون الجامعات وكما ورد في الصفحة 252 من الاستراتيجية، مما شجع بعض رؤساء الجامعات لمخاطبة مجلس التعليم لاتخاذ القرارات نيابة عن بعض مجالس الحاكمية فيها، لا بل ان الامر ذهب ابعد من ذلك حيث سبق وان حاول أحد الوزراء السابقين التدخل وبقوة في الترقيات ومنح الرتب الاكاديمية وغيرها من الأمور (قد نعود اليها في الجزء الخاص بالتجربة الشخصية).
اما فيما يخص المشروع الثاني والمتعلق بتعين رؤساء للجامعات بحيث يكون مبني على الكفاءة القيادية والأكاديمية والإدارية، فإنني اترك هذا الموضوع للأخرين للحكم على بعض من تم تعينهم في هذه المواقع، وعن الية الاختيار. كما ان اعمال التقييم لرؤساء الجامعات في كثير من الاحيان لا تتم بناء على مؤشرات الأداء الدورية (كيف استلم المؤسسة وكيف أصبحت مع الزمن خلال وجوده فيها، وتقييم الأثر الأكاديمي والمالي المستقبلي للقرارات التي يتم اتخاذها، حيث ثبت في بعض الجامعات ان أسباب ازماتها الاكاديمية والمالية كانت بسبب عدد من القرارات الإدارية وخاصة تلك المتعلقة بالتعينات التي لا حاجة لها وغيرها من الأمور (سبق ان تحدثت عن هذا الموضوع في مقال سابق بعنوان مديونية الجامعات الرسمية بين الواقع والتضخيم، منشور بتاريخ 5/7/2023، والتي لا يظهر أثرها في الجامعة مباشرة، ولم يسأل أحد عن ذلك)، وهنا يأتي دور المساءلة الحقيقية، ويمكن الاستعانة بديوان المحاسبة لتقييم إثر مثل هذه القرارات وان يكون التقييم على مؤشرات الأداء والاثر المالي والاكاديمي للقرارات.
فيما يخص الهدف الاستراتيجي الرابع والمتعلق بالابتكار، حيث حدد لتحقيق هذا الهدف مشروعين، الأول متعلق بأنشاء صندوق للابتكار، وقد تم، حيث تم تحويل صندوق دعم البحث العلمي الى صندوق الابتكار، وهو نفسه الذي تقرر مؤخرا الحاقة في المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، وبالتالي يكون قد خرج من إطار التعليم العالي. وفي جميع الأحوال فالأردن اليوم يحتل المرتبة العاشرة عربياً في مؤشرات البحث العلمي و73 عالمياً في مجال الابتكار (Global Innovation Index 2024 ranking). وسنعود الى هذا الهدف في تقرير مؤشر المعرفة الصادر في عام 2024.
ان الهدف الخامس والوارد في الاستراتيجية والمتعلق بأنماط التفكير والمرتبط بزيادة الوعي لدى الجهات المستفيدة من أهمية التعليم، والكل يجمع على أهمية التعليم ولا يمكن الاختلاف حولها، ويعكسه الاقبال المتزايد للأردنيين بالالتحاق بالمؤسسات التعليمية لإيمانهم المطلق بأهمية التعليم لأبنائهم.
في الجزء الثاني سنتحدث عن بعض مؤشرات المعرفة والأداء القابلة للقياس وعن البطالة بين الخريجين ومديونية الجامعات وغيرها من الأمور.

إقرأ الخبر السابق

هجوم عنيف من ترمب وماسك على وكالة USAID.. هل يتم إغلاقها؟

اقرأ الخبر التالي

الملكة رانيا تطالب بتطبيق عالمي غير مشروط لحقوق الأطفال

الأكثر شهرة