مُنيت الليرة السورية بخسائر كبيرة في العام 2023، وشهدت قيمتها تقلبات حادة مسجلة مستويات هبوط قياسية في غضون أيام، وذلك رغم “الانفتاح العربي” على النظام السوري الذي حدث في هذا العام، ليأتي أداء العملة المحلية مخالفاً للتوقعات التي كانت تتحدث عن تحسن اقتصادي قد تشهده سوريا.
ووصف اقتصاديون وخبراء أداء الليرة السورية في العام 2023 بـ”الكارثي”، حيث خسرت الليرة على مدار العام أكثر من 200 في المئة من قيمتها وفق سعر السوق السوداء، وأكثر من 300 في المئة بحسب النشرة الرسمية الصادرة عن “مصرف سوريا المركزي”.
خسائر كبيرة
شهد سعر صرف الليرة السورية في الأيام الأولى من العام 2022، بعض التحسن، عندما هبط سعر الدولار إلى مستويات 6500 ليرة سورية، بعد أن كان سعر الدولار يتجاوز حاجز السبعة آلاف ليرة في أواخر العام 2021.
لكن هذا التحسن لم يدم طويلاً، إذ عاودت الليرة الهبوط في مطلع شباط/ فبراير لتحوم عند مستوى السبعة آلاف أمام الدولار الواحد.
ورغم تدفق المساعدات العربية والدولية لسوريا بعد الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وشمال سوريا في 6 شباط/ فبراير، فإنه لم يطرأ أي تحسن على أداء الليرة، بل العكس واصلت الليرة الانحدار، ولم تنه شهر آذار/ مارس إلا وقد تجاوز الدولار حاجز الـ8 آلاف ليرة.
وفي منتصف أيار/ مايو سجلت الليرة موجة تقلب كبيرة، عندما قفز الدولار عتبة الـ9 آلاف ليرة، قبل أن تستعيد الليرة بعض خسائرها، ويعود الدولار إلى ما دون الـ8500 ليرة، لكن لأيام قليلة.
ومنذ مطلع تموز/ يوليو فإن الليرة دخلت في مرحلة “السقوط الحر”، بحيث لم ينته هذا الشهر إلا وقد ارتفع سعر الدولار إلى 12500، بعد أن كان في حدود الـ9 آلاف في مطلعه.
وفي منتصف آب/ أغسطس تعرضت الليرة لخسارة كبيرة، عندما بلغ سعر الدولار 15500 ليرة، ونتيجة إجراءات “إسعافية” من جانب النظام فقد استعادت الليرة بعض عافيتها، وأنهت الشهر عند حدود الـ13 ألف أمام الدولار.
وفي الأشهر التالية، استمر التراجع لكن بمستويات “اعتيادية”، وصولاً إلى كانون الأول/ ديسمبر الحالي، الذي تجاوز فيه سعر الصرف حاجز الـ14 ألف ليرة لكل دولار في السوق السوداء.
أما على مستوى التسعيرة الرسمية، فإن الدولار ارتفع إلى أكثر من 12 ألف ليرة في هذه الأيام، بعدما كان السعر عند الـ3030 ليرة بداية العام، وهو ما يعني أن الليرة خسرت أكثر من 300 في المئة من قيمتها.
أسباب متعددة
ويرى أستاذ الاقتصاد الدولي رفعت عامر، في الانخفاض الحاد في قيمة الليرة السورية “نتيجة طبيعية” لأسباب منها تعطل الدورة الإنتاجية بكل حلقاتها من الإنتاج والتسويق وصولاً إلى البيع والمستهلك النهائي، وإلى تدني إنتاجية العاملين وعلى الخصوص في القطاع الحكومي.
ويشير ، إلى تعطل منظومة السوق بمعناها الاقتصادي والقانوني والأمني، فلا أسواق تعمل بكفاءة بغياب مؤسسات الدولة، وإلى فقدان عامل الثقة بالليرة، وكذلك إلى عدم توفر الاحتياطيات الأجنبية في خزينة البنك المركزي، وإلى تمويل الموازنة العامة للدولة بالعجز وبيع السندات.
أما عن الأسباب الأكثر تأثيراَ، فيلفت عامر إلى توقف الدعم الإيراني أو تقليله بالحد الأدنى، وإلى التشديد الدولي والإقليمي على تجارة المواد المخدرة.
من جانب آخر، يلفت عامر إلى زيادة هجرة أصحاب الأموال والصناعيين إلى خارج سوريا، بعد فقدان الأمل بأي تحسن للوضع في سوريا، علماً بأن الانفتاح على النظام كان قد أشاع بعض التفاؤل لديهم.
وبذلك، يؤكد أستاذ الاقتصاد الدولي أن المصدر الوحيد المتبقي للنظام هو تحويلات المغتربين إلى عائلاتهم، وعائدات تجارة المخدرات، مستدركاً بالقول: “لكن حتى هذا المورد أصبح تحت رقابة دولية وإقليمية وهو آخذ في الانخفاض”.
2024 الأصعب
وعليه، فإن عامر يجزم بأن الليرة ستواصل الانحدار في العام القادم، وأبعد من ذلك يقول: “ستكون الخسائر أكبر، لا بل وبشكل متسارع، بسبب فقدان الأمل من أي دعم إيراني أو روسي بعد أن استحوذت طهران وموسكو على القدر الأكبر من مقدرات البلاد”.
ويتفق مع عامر، المراقب المالي منذر محمد الذي يؤكد أن كل وعود النظام بالتحسن الاقتصادي لم تتحقق، بل العكس.
ويقول: “ما من مؤشرات اقتصادية على احتمال تحسن قيمة الليرة، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن العام 2024 سيكون الأصعب على الليرة، وعلى السوريين بطبيعة الحال”.
تداعيات “كارثية” على السوريين
ويحذر المراقب المالي من تداعيات اقتصادية “كارثية” على السوريين الذين يعيشون في غالبيتهم تحت خط الفقر، مشيراً إلى أن مراكز البحوث المحلية تُقدر أن العائلة السورية تحتاج إلى ما لا يقل عن مليون ونصف مليون ليرة لتعيش الكفاف، في حين أن متوسط الأجور لا يتجاوز الربع مليون في أفضل الأحوال.
ويلفت محمد إلى التضخم الكبير في الأسواق السورية، بحيث لم يعد الراتب قادراً إلا على تغطية احتياجات ثلاثة أيام، مبيناً أن “تكلفة إعداد وجبة واحدة تبلغ 100 ألف ليرة سورية، بدون لحوم طبعاً”.
وبحسب تقارير إعلامية نشرتها وسائل إعلام موالية، فإن غالبية السوريين يضطرون للتخلي عن بعض المأكولات الأساسية والاستعاضة بالخبز الحاف كوسيلة لتلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية.
وذكرت “وكالة أوقات الشام” أن سوريا شهدت ارتفاعاً هائلاً في أسعار الخضار والفواكه بنسبة تصل إلى 1900 في المئة، ما أدى إلى تغيير جذري في عادات تناول الطعام للمواطنين.
ويفاقم تخفيض المساعدات الإنسانية المقدمة من الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية مشكلة الأمن الغذائي في سوريا.
وكان “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” قد اعتبر أن تفشي الفقر في سوريا أثر بشكل كبير على قدرة السكان على تأمين احتياجاتهم اليومية من الغذاء والسلع الأساسية، خصوصاً في ظل الارتفاع الحاد وغير المسبوق في الأسعار.
وقال في بيان نشره في تشرين الثاني/ أكتوبر الماضي، إن “النزاع في سوريا وما رافقه من أزمة نزوح، وانكماش اقتصادي حاد، وانخفاض قيمة العملة المحلية، أدى إلى إفقار السكان وزيادة أعبائهم المعيشية، إذ بات نحو 90 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، وسط ارتفاع قياسي في الأسعار تعدى الـ800 في المئة خلال العامين الماضيين فقط”.